20-02-2015 | 23:18
مازن حيدر وأكرم الريّس
هالارض كلها بيوت
يا رب خليها مزينة ببواب
(من اغنية البواب لفيروز،
نظم جوزف حرب ، لحن فلمون وهبي)
تداولت وسائل الإعلام المحلية في السنوات الأخيرة اقتراح تخصيص متحف لفيروز في منزل طفولتها في بيروت. وأثمرت هذه الحملة الإعلامية تصنيف البيت المهدد المبني في القرن التاسع عشر في حي زقاق البلاط، مبنى ذا منفعة عامة. أبرزت هذه الخطوة الجريئة والواعدة رؤيتين متعارضتين حول مستقبل المدينة. فمن جهة، أظهر مشروع الاستملاك نزعة شعبية متصاعدة نحو انقاذ القليل المتبقي من الارث المعماري للمدينة ورعاية ماضيها العمراني. أمّا من جهة أخرى فقد كشف عن أساليب تأصلت في التغاضي عن تشويه المدينة، وبادرت في كلّ مرّة لاختلاق الذرائع لعدم الامتثال للمطالبة بالمحافظة على الارث المديني.
يُركّز مقالنا هذا على منزل فيروز كفضاء مديني متنازع عليه، ويُبرز قراءات وتفسيرات متعددة لـ"فضاء الصوت" والتراث والذاكرة. كما يعالج العلاقة بين وظيفة المتحف المنشود، في تحويل الموقع من بيت متواضع خاص الى مركز عام مكرّس لفنانة ارتبط اسمها بتاريخ لبنان الحديث بعدما كان صرحاً ذا طابع عام في مرحلة سابقة ترجع الى نهاية العهد العثماني. ونتطرّق في بحثنا عن معنى المحافظة على الموقع الى العقبات التي قد تواجه حملة اعادة احياء هذا البناء العثماني.
نعود بدايةً الى المرسوم الوزاري الذي ردع رسمياً أي تعديل في الموقع والذي استند إلى معلومات وردت سابقًا في بيان المديرية العامة للآثار للعقارين 565 و567 في منطقة زقاق البلاط. كان هذا التقييم قد ذكر "أن المبنيين القائمين عليهما يشكلان وحدة هندسية متكاملة". وأكد النص أن القيمة اللافتة للموقع تعود ليس فقط إلى العناصر المعمارية فيه بل أيضًا إلى كونه يشكل نموذجًا مهمًا للتخطيط المدني لبيروت في آخر القرن التاسع عشر. وأقر المرسوم من جهة أخرى بالدلالات "التاريخية والثقافية" لهذين العقارين مع الإشارة إلى مكانتهما البارزة في الذاكرة الجماعية للمجتمع نظراً إلى صلتهما بالحقبة العثمانية وبفيروز. لقد مثّل هذا النص محاولة أولى للمحافظة على فضاء مادي لارتباطه بفيروز، يختلف الى حدٍّ كبير عن مواقع أخرى ارتبطت بمسيرتها الفنية، مثل مسرح البيكاديللي في بيروت أو هياكل بعلبك أو غابة الأرز أو قصر بيت الدين أو غيرها من الصروح. فالموقع هنا يتجذّر في حياة الفنانة وفي علاقتها الاجتماعية والمهنية الأولى بجوارها المديني. وقبل أن ندخل في تفاصيل هوية المكان المتنازع عليه، من المجدي ان نشير الى أنّ كل سعيٍ للمحافظة على الارث المعماري يتمثلُّ في مراحل ثلاث:
أولاً مرحلة الإنقاذ: وهي مرحلة المطالبة الحثيثة بوقف عمليات الهدم أو التحويل للتراث المعماري بهدف الوصول الى قرارٍ قانوني يمنع التغيير أو العبث بموقع معيّن ذي منفعة عامة. تشكّل هذه المرحلة تمهيدًا أوليًا لمشاريع المحافظة من ترميم واعادة تأهيل.
ثانيًا مرحلة المحافظة: وهي المرحلة الأوّلية لتطبيق الإجراءات القانونية من خلال المراقبة والتقييم واستحداث خطط عملية للحدّ من تدهور حال البناء تمهيدًا لاعاة تأهيله الانشائيّة.
ثالثًا مرحلة الترقية: هي مرحلة التدخل الفعلي في الموقع بغية إعادة تأهيله وتوظيفه. وقد لا يفضي ذلك بالضرورة إلى تحويل الموقع إلى متحف.
لكن فكرة المحافظة على الموقعين 565 و567 في زقاق البلاط تزامنت مع فكرة تحويلهما الى متحف لفيروز لأسباب عدّة. أولاً، لأنّ هناك ميلًا حتميًا إلى استباق مرحلة ترقية المبنى، في كل خطة للمحافظة على موقع ذي قيمة جمالية وتاريخيّة. ثانيًا، لأن دعوات المحافظة على الارث المعماري في بيروت نادراً ما آتت ثمارها بسبب الفساد والمناورات غير القانونية. لذا، وبهدف إنقاذ ما تبقى من العقارين، كان لا بدّ من استباق فكرة تحويل البيت العثماني الى متحف يحمل اسم فيروز.
بدأنا مقالنا بهذه المقدمة الاستقصائية لإيماننا بأن عملية تحويل الموقع إلى متحف لا بدّ أن تُبحث من بابٍ علمي دقيق، بعد أن تتضح لنا القيمة المعنوية لهذا البيت. فلنتعرّف الآن أكثر الى أهمية هذا الموقع من خلال ثلاث قراءات مختلفة تلقي الضوء أولاً على الموقع، وعلى الشخصية التي يرمز اليها، من ثمّ على التاريخ الذي يجسّده في مدينة بيروت. تتمثّل المحاولة الأولى في تحديد قيمة البناء الهندسية قبل التطرق إلى ذاكرة المكان. وتقوم القراءة الثانية، في المقابل، على ذاكرة المكان بغض النظر عن القيمة المتّصلة بالبناء نفسه. وتجمع المقاربة الثالثة المقاربتين السابقتين لتساوي بينهما من خلال تأكيد الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً في عملية المحافظة على هذا الارث المعماري.
القراءة الأولى: الموقع
يرتبط تاريخ الحي حيث يقوم المخفر العثماني السابق، بتاريخ التمدد العمراني لبيروت وبأول شارع مرصوف خارج أسوار المدينة القديمة (1831 – 1840)، وهو الذي أعطى الحي اسمه "زقاق البلاط". لذا، يحمل الاسم نفسه تذكيرًا بحقبة التوسّع السكّاني في بيروت. وعلى الرغم من موجة الهدم المستمرة منذ ستينات القرن المنصرم التي قلّصت عدد أبنية الحقبة العثمانيّة تدريجيًا، لا يزال هذا الحي يحافظ على عددٍ غير قليل من المباني تعود إلى آخر القرن التاسع عشر. منها مبنى المخفر أو الكركول، وهو مجمع مؤلف من بناءين مترابطين يعودان إلى العهد العثماني المتأخر، بين شارعي البطريركية وبطرس البستاني. وقد بقي هذا المجمع سليم البنية ومأهولاً بالسكان حتى فترة زمنية قريبة، شاهدًا عمرانيًا بارزًا من الحقبة العثمانية في بيروت المعاصرة الآخذة في التحوّل. يتميّز البناء في داخله بتوزيع الغرف في طبقتيه حول فضاءٍ وسطي اسوةً بسائر المباني في الحقبة ذاتها. شُغل بهو الوسط كردهة جلوس واستقبال أو مساحة لقاءٍ بين مختلف شاغلي الغرف كما كانت الحال عند وفود عائلات الهجرة للعمل في العاصمة. ينعكس هذا التوزيع الداخلي خارجًا، من خلال الباب والنافذتين التي تُزيّن الواجهة بأقواسها الثلاث. أما بعد عمليات الهدم والتخريب المتكرّرة التي قضت على جناح الكركول الغربي وعلى بيت الشوّاف الملاصق له شرقًا، فقد أخذت المعاني والدلالات الأولى التي يحملها البناء تتراجع لتحدَّ شيئاً فشيئًا من قيمته الجماليّة والتاريخيّة. لو بحثنا الآن في مشروع الترميم لرأينا أنّ من المنطقي أنّ تصبّ مجمل الاقتراحات في استرجاع العهد الأوّل للبناء واعادة تركيب أجزائه المفكّكة. بهذا يتوجّه بنا البحث نحو معاني البناء الجمالية والتاريخية الكامنة خلف الأشكال الهندسية فيه وتقنياته الانشائيّة. فمن خلال استعادة هذا البيت يُلقى الضوء مجددًا على أساليب في العمارة كانت قد زالت مع استقدام الاسمنت المسلّح في فترة الانتداب.
بيدَ أنّ قيمة البناء لا تقتصر فقط على عناصره المعمارية بل تتخطّاها لتشمل أيضًا علاقته بالنسيج المديني وبدوره الفاعل على تحريك ذاكرة المكان كما ستبيِّن لنا القراءة الثالثة. فبدلاً من أن يُسلخ هذا الصرح زمنيا عن محيطه المعاصر وأن تكتفي عملية الترميم باستعادة شكله الخارجي الأصلي، لا بدّ من ايجاد صيغة تحتضن تاريخ التحولات التي عاشها هذا المكان. ويكون ذلك من خلال تفعيل دوره كشاهد عمراني وابقاء العلامات الماديّة لهذا التحول مثل العناصر المستبدلة أو القواطع الداخليّة المستحدثة وغيرها.
القراءة الثانية: الشخص
يرتبط اسم فيروز في شكل وثيق بعناوين لا تكاد تحصى تصف دورها الطليعي كمغنية وشخصية رئيسية في المسرح الغنائي في لبنان والعالم العربي وحتى خارجه. قلة هم الفنانون والشخصيات العامة الذين ارتبطوا بهذا الشكل الوثيق ببناء هوية وطن ورافقوا مسيرة مجتمع مثلما حصل مع فيروز. وقد تميزت في غالبية أعمالها بعدم ارتباطها بمكان مادي محدد، إذ بقيت الأمكنة أمكنةً شاعرية فحسب. مع ذلك، تبقى صلة فيروز بسلسلة من الأمكنة راسخة في سيرتها الذاتية حيث عاشت، وتعلمت، وغنت. ويمكن عملية توثيق الغرفة التي سكنها آل حداد في الكركول وإعادة تشكيلها اليوم، أن يكونا الأكثر تجانسًا مع هذه القراءة.
ما من شك في أن بيت طفولة فيروز في زقاق البلاط يشكِّل نقطة جذب لاهتمام الرأي العام. فاسمها نفسه يضفي مشروعية ليس فقط على إنقاذ البيت، بل كذلك على ترقيته والترويج له. قبل التفكير حتى في تحويل هذا الموقع الى متحف، يمكن هذه القراءة أن تثير أسئلة كثيرة، مثل: ما جدوى بذل جهد كبير لإنقاذ الموقع القائم في إطار مديني، علماً بأن أسطورة فيروز ارتبطت بالثقافة الريفية بشكلٍ وثيق؟ وهل يمكن الموقع في ظروفه الراهنة أن يكون جديراً بالإنقاذ فقط بسبب ارتباطه باسم فيروز؟ قد تبرز في هذا الموضوع بعض الآراء المعارضة لفكرة إنقاذ هذا الموقع لأنه لا يتبوأ مكانة دامغة في سيرة فيروز مقارنةً مع بقية الأمكنة المرتبطة بها. تقرّ هذه القراءة بقيمة تلك الأماكن لكنها قد لا تعطي هذا الموقع الأولوية. رداً على ذلك، نقول بدايةً إن "الأصل" يبدو موضوعاً متكرراً في إعادة اكتشاف كل شخصية عامة. فأيّ أسطورة حول اسمٍ ما، تشترط تتبعَ جذورها. ثانياً، تؤنسن إعادة تتبع الأصول، خصوصاً الأصول المتواضعة، الأسطورة، وتنوّه بعظمتها في الوقت نفسه. وأخيراً، ثمة جاذبية خاصة في الوصول إلى العالم الحميم لنجمة تميزت كفيروز بتكتمها وخجلها.
تتشابك تفاصيل الأمكنة وناسها لتمهد لمسارات السيرة الذاتية وتحتضنها. من دراسة ماضي فيروز وروايتها هي لصِباها، تتضح أن سنوات التكوين ترتبط بمنطقة زقاق البلاط. ففيها التحقت فيروز، واسمها الأصلي نهاد حداد، بمدرسة، وذهبت الى كنيسة، وشغلت وظيفتها الأولى كعضوة في جوقة غنائية في هذا الموقع المديني. في هذا الحي أيضاً، التقت بالاشخاص الذين سيغيّرون حياتها جذرياً: محمد فليفل (1899 – 1985) في المدرسة، ولاحقاً عاصي رحباني (1923 – 1986) في الإذاعة اللبنانية، الذي معه غادرت هذه المنطقة في العام 1955 إلى أنطلياس عروساً لتنطلق إلى آفاق جديدة في حياتها المهنية. كان الدور التكويني لمحمد فليفل مزدوجاً، فهو درّب نهاد حداد الصغيرة على أسس الغناء والتجويد القرآني، كما حصل على منحة لها لتدرس الموسيقى في الكونسرفاتوار الذي كان يديره وديع صبرا (1876 – 1952). تمكن فليفل أيضاً من إقناع والدها وديع حداد (توفى في 1994) بالسماح لها بالمشاركة في حفلات الجوقة في كل من مدرسة حوض الولاية والإذاعة اللبنانية التي كانت قائمة في السرايا الكبيرة حيث التقت بحليم الرومي (1915 – 1983) وبعاصي وهو الحدث الأهم في مسيرتها.
من خلال الاذاعة اللبنانية، اتسع حيز المكان المديني في سيرة بدايات فيروز وكبرت رقعته من زقاق البلاط الى دوائر وقواعد أخرى جديدة. وكانت الإذاعة اللبنانية في 1950 (أي بعد 12 سنة على تأسيسها على يد الانتداب الفرنسي) قد أصبحت تمثل صوت بلاد نالت الاستقلال قبل سبع سنوات، بلاد تجهد لأداء دور ثقافي واقتصادي محوري في المنطقة. وبذلك كانت احدى الوسائل الحديثة المتاحة لبناء وطن يبحث عن صوته المتطور الخاص، وهذا ما جسدته فيروز إلى حد بعيد منذ مرحلة مبكرة من حياتها المهنية، ليصبح صوتها شيئاً فشيئاً صوت لبنان وناسه و"موج سفره" كما تقول الاغنية. تضافرت موجات الإذاعة من لبنان وسوريا ومصر، وسرعان ما أصبحت فيروز والأخوان رحباني زواراً أسبوعيين لإذاعة دمشق (منذ 1952 على الأرجح) حيث سجلوا أعمالهم التي نالت قبولاً شغوفاً لدى الجمهور السوري. في الموازاة، شكلت الأستوديوات البيروتية القائمة الخاصة بإذاعة الشرق الأدنى في شارع جنبلاط، التي كانت قد انتقلت من فلسطين إلى قبرص في 1948، القاعدة الثالثة لفيروز والأخوين رحباني، يدعمهم المخرج الرؤيوي صبري الشريف (1922 – 1999) الذي وجّه "الصوت الجديد" الخاص بهم ودعمه بالتقنية اللازمة من فرق موسيقية مدربة وموازنات وإدارة وأدوات تسجيل حديثة.
في العودة الى المسارات الاولى للسيرة الذاتية والى زقاق البلاط، ترعرعت فيروز في أسرة من الطبقة المتوسطة، وكان والدها عاملاً يدوياً في مطبعة، وأمها ربة منزل من آل البستاني من قرية الدبية في الشوف. وكانت هي البكر فساعدت والديها في العناية بأخيها وأختيها. تستعيد فيروز ذكرياتها عن طفولتها في زقاق البلاط وفي الدبية حيث كانت تمضي عطلتها الصيفية في منزل جدتها، وذلك في مقابلات كثيرة، منها مقابلة أجراها معها الصحافي المصري محمد السيد شوشة في 1956، ومقابلة طويلة عن سيرتها أجرتها الصحافية نازك باسيلا في 1973، ووثائقي تلفزيوني أعدّه الصحافي الفرنسي فريدريك ميتران في 1998. كما قدّم كتابان مخصصان لرحلتي فيروز في الولايات المتحدة في 1981 و2003 نبذة عن سيرتها وصوراً عن طفولتها.
في هذه المقابلات والروايات، تُبرِز فيروز اهتمامها الفطري بالموسيقى والغناء، وهو اهتمام بدأ تلقائياً في سن مبكرة: "لما كنت اسمع الموسيقى اللي هي من عند الجيران، الجيران كانوا بالطابق العالي، وانا بالمطبخ، وباب المطبخ بيعطي على شباك جار بيشتغل بالليل وبينام بالنهار، وانا بالمطبخ عم بشتغل بالنهار، بس تطلع الموسيقى بلّش انا رافقها، ووعيّه، يوعى هوّي ويفتح الشبّاك ويبلّش يعيّط ويسبّ انّو ليش ما بيجو يفتحوا الاذاعة هون؟ شو هيدا؟ هيدا كان يومية هالقصة لغاية ما فلّيت من البيت، ارتاح مني كلياً" (فريدريك ميتران، وثائقي فيروز ولبنان، 1998).
خلال تلك الفترة، كان الراديو الوسيلة الأساسية لنشر الموسيقى، وخصوصاً للذين لم يكونوا قادرين على شراء التسجيلات أو بطاقات الدخول إلى الحفلات أو حتى حضور الأفلام الموسيقية. لكن بالنسبة إلى فيروز، كان حتى امتلاك راديو خاص بها حلماً: "لم يكن في بيتنا سوى غرفة واحدة يفصلها عن المطبخ أقل من خطوة... حلم عذب راودني قبل شروعي في العمل بسنوات – كانت ابسط الاشيا وارخصها بالنسبة الينا احلاما – هو الحصول على جهاز راديو يغنيني عن اطالة وقوفي في المطبخ للاصغاء الى راديو الجيران. فكان اول ما جاءنا به والدي بعد عملي مباشرة، جهازاً مستعملا لا ادري اين وقع عليه. واصبحت اصحو واغفو على صوت الموسيقى" (نازك باسيلا، مذكرات فيروز الحلقة الثالثة، الأسبوع العربي، العدد 735، الاثنين 9 تموز 1973).
على خلاف البيت المؤلف من غرفة واحدة في زقاق البلاط، القائم قرب بيوت مجاورة، قدّمت الإجازات الصيفية لفيروز في بيت جدّتها في الدبية، تواصلاً مفتوحاً ومريحاً مع مشاهد الطبيعة وأصواتها. وأعطاها ذلك فضاء من الحرية والأمن: "بعد الحرية وعطر الصنوبر في الدبية كنت أعود الى الأسر داخل السور الذي احاط في بيروت بمنزلنا ومنازل الجيران. كان والدي حنوناً وشديداً، لم يسمح لنا مرة بالإصغاء الى ما يرويه ضيوفنا من نكات، بل كنا بإشارة منه نخرج الى الحوش وندع للكبار مجال الضحك وسرد الاخبار" (نازك باسيلا، مذكرات فيروز الحلقة الاولى، الأسبوع العربي، العدد 735، الاثنين 9 تموز 1973).
عكست جدة فيروز وقرية الدبية احساسًا بالأمان وبالانتماء، واستمرت الجدة في تمثيل هذا الشعور حتى بعد انقضاء العطلة الصيفية وعودة فيروز إلى الفضاءات المغلقة في زقاق البلاط والأحياء المحيطة به في بيروت: "... أما جدتي فكنت أحب مرافقتها الى حيث شاءت. وقفنا مرة ننتظر الترامواي أمام كاتدرائية مار جرجس. لما دنت منا الحافلة صعدت وتبعني اليها رجل يحمل حصيراً عريضاً حال دون صعود جدتي. سار الترامواي فجأةً فطار عقلي وصرت أقفز مكاني وأصيح: بدّي ستّي بدّي ستّي. فيما أخذت هي تركض وراءنا حتى بلغنا الغران تياتر حيث توقف السائق ضحك الركاب وقد أثرتُ شفقتهم..." (المرجع السابق).
في هذه الحياة البسيطة، تجد فيروز السعادة في بيت طفولتها الذي كان حبّها له "يزداد يوما بعد يوم، (فتحمل اليه) باقات من الازهار البرية..." (المرجع السابق) كانت تأتي بها إلى المنزل من مشاويرها في الحدائق المجاورة.
لا يقتصر هدف هذه القراءة على تقصي الانسجام بين رواية ذاتية حميمة والواقع من خلال إعادة تكوين العناصر المختلفة للسيرة، بل يشمل كذلك تحديد الإمكانات التي تحملها نواة متداعية لإثارة الذكريات في الزمن الراهن. وليست عملية إعادة بناء التاريخ الخاص بمكان ما، عبارة عن خريطة طريق منتظمة. لكن أصالة هذه المقاربة الاستعادية تكمن في ازدواجيتها، فمن جهة هي تؤكد قدرة المعرفة التاريخية على تعزيز إعادة اكتشاف المنطقة، لكنها تؤكد من جهة أخرى، وهذا هو الأهم، الترابط بين الرواية هذه والتاريخ الحديث لمدينة بيروت.
القراءة الثالثة: التاريخ والذاكرة
في العودة الى القراءة الأولى والى المعاني الكامنة خلف البناء في وضعه اليوم والدلالات الملموسة التي يحملها، نضيف من خلال بحثنا الأخير هذا قراءةً لذاكرة المكان.
تبرز قيمة البيت التاريخي ليس فقط برمزية عملية الترميم بل بتفعيل دور الصرح كشاهدٍ أساسي على التغييرات المعمارية والعمرانية في محلّة زقاق البلاط بالتحديد، بدءًا من نهاية الحقبة العثمانية الى أيامنا هذه. ذلك أنّ المحافظة على الارث الثقافي لا تتكلّل في الضرورة باسترجاعٍ حرفي للوضع الأوّل للبناء بل هي أولاً وأخيراً لحظة تأمّل بسائر المراحل التاريخية التي رسمت الهوية الحديثة للمكان في محاولة لزرع الوعي التاريخي لدى السكان الجدد. وعوضًا من استعادة وضعٍ معيّن للبناء دون سواه، لا بدّ لكل مقاربة في اعادة التأهيل أن تتوقف عند مجمل المراحل والوظائف المتغيرة التي مرّ بها الكركول تاركةً اثرًا ماديًا في هيكله. نذكر من هذه المراحل فترة تأسيسه كمركزٍ للشرطة ومن ثم فترة تحويله التدريجي الى وحداتٍ سكنية للوافدين من الطبقة العاملة الى العاصمة المزدهرة خلال فترة الانتداب، ومن بينهم آل حداد، وأخيرًا ارتباطه تحديدًا بفيروز وانطلاقتها الفنيّة.
إنّ عملية الترميم هي اذًا محاولةٌ شيّقة لاكتشاف روحية المكان من خلال دراسة تاريخه القديم والحديث. فاذا كانت المحافظة على الموقع في وضعه السابق (أي قبل هدم بيت الشواف والجناح الغربي للمخفر) ستساهم في اعادة احياء ما تبقى من النسيج العمراني للمدينة في الحقبة العثمانية، فإننا نسعى اليوم من خلال مشروع ترميم البيت المتداعي والمنفصل عن جواره أن نروي تاريخ المدينة المعاصرة الآخذة في التحول وأن نوثّق للتغيير العمراني في بيروت عموماً، وفي حي زقاق البلاط خصوصاً. بذلك، فك الارتباط بين البنية القائمة وتحولات وظيفتها الأساسية، يجعلها مجرد مكانٍ لا رمزية له. في هذا السياق، يشير النص الرسمي ضمنًا إلى أن على كلّ مشروع جديد أن يبتعد عن فكرة تطهير الموقع لإعادته إلى مرحلة معينة دون سواها. بهذا، تتوضح تحولات وجهات استخدام تلك الأرض في التوسع المديني، وإعادة تحديد الفضاءات العامة والخاصة في الكركول العثماني، والمراحل الانتقالية في العمارة السكنية. وسيُروى هذا التاريخ من خلال شخصيّة عاشت التحولات في الحي والمناطق المجاورة واختبرتها مباشرة ابتداء من زمن الانتداب امتدادا الى العشرية الاولى من مرحلة الاستقلال.
من خلال إعادة تتبع البدايات الاولى لفيروز في بيت الطفولة في زقاق البلاط، يُفاجأ غير العارفين بالمدينة كيف أن الحي الذي عزلته عن محيطه شبكة الطرق المستحدثة أواخر الستينات عند جانبيه الشمالي والشرقي، كان يومًا جزءًا لا يتجزّأ من نسيج المدينة. كذلك، يكتشف زائر الموقع عبر استعادة تلك المرحلة من حياة فيروز، أن الحي، خلافًا لليوم، ضمّ في فترةٍ من الفترات شرائح مختلفة من المجتمع اللبناني المتعدّد. فالدور الأبرز والأهم لمشروع الترميم هو اعادة بناء الحميمية الضائعة مع أحياء مهمّشة في قلب المدينة بعد سنوات طوال من الانفصال والاضطراب السياسي. اذ حتّى الأسماء الرسمية لبعض الأحياء الفرعية باتت مجهولةً تمامًا لشريحة كبيرة، لتبقى مشمولة ضمناً في "الحمرا" و"الأشرفية"، اللذين حلاّ أساساً مكان تسميتي فترة الحرب الاهلية، بيروت الغربية وبيروت الشرقية.
ففي حين أن القراءة الأولى تتيح لنا أن نقارب الموقع من خلال عناصره وخصائصه المعمارية، والقراءة الثانية من خلال باب السيرة الذاتية، تكمن قيمة القراءة الثالثة بأنها تحتضن تاريخ المكان عبر الاضاءة على تعدّد وظائفه وتراكم معانيه من مخفر للشرطة الى مقرّ للقادمين الجدد الى بيروت الى بيت طفولة فنانة كبيرة مثل فيروز وصولاً الى وضعه الراهن. وعليه، توصي هذه القراءة بأن تتم المحافظة على هذا المعلَم بتاريخه الغني بكل مراحله كوثيقةٍ تشهد على تحولات المدينة ونسيجيها العمراني والاجتماعي.
خلاصات
بعدما استعرضنا القراءات الثلاث (الموقع، الشخص، التاريخ) حول بيت طفولة فيروز، نعود الى سؤالنا الأساسي عن مدى ملاءمة اختيار هذا البيت لتكريمها. حتماً، لا يعيد هذا الموقع المديني تشكيل تجربة حياة فيروز في بيروت فحسب، بل يروي أيضاً تاريخ زقاق البلاط وبيروت من خلال التجربة الشخصية لنهاد حداد الطفلة والمراهقة. وعندما نتبيّن كيف تتفاعل القراءتان الأولى والثانية لتوليد الخطاب الناتج من القراءة الثالثة، أي التاريخ، الذي يوائم القيم الملموسة وغير الملموسة في عملية المحافظة، يتوضح تعدد الخصائص والمظاهر التي تتجسد في شخصية فيروز. فالمدينة، التي تسربت تدريجاً من طيف الفنانة في شقّ كبير من الأعمال الموسيقية والمسرحية للأخوين رحباني، حُرِمت في شكل غير مباشر من أي إرتباط عاطفي، بل أُفقِدت صدقيتها حتى في أن تكون بديلاً من القرية، التي كانت عالماً متخيلاً ثُبِّت في سياق ريفي ومُنِح صفات مثالية ليصبح نموذجاً للسكون. يبدو أن هذه العملية الخطرة لبناء هوية وطنية لبنانية، خصوصاً عبر التعبير الفني، بعد استقلال البلاد في 1943، تصوّر حياة المدينة كتجربة عابرة. ومع حصول النزوح الجماعي الكبير إلى العاصمة قبل الحرب الاهلية وإستمرار تدفقه في بداياتها، نال المطلب المستمر للباحثين في تاريخ لبنان الاجتماعي، بإعادة تفسير الأصول الريفية وتمجيدها، أهميةً إضافية، ما وضع بيروت في موقع ثانوي.
وفق عالم الاجتماع سمير خلف، كان نسق حياة المهاجرين الجدد في المدينة يستمد دعماً رمزياً من زيارات دورية إلى المناطق الريفية، أو من تطوير شبكات ريفية في المناطق المدينية. ولخّص وضع التجربتين الريفية والمدينية الواحدة قبالة الأخرى، بأنهما قطبان متناقضان أُخضِع الثاني بينهما للأول الذي هزمه في شكل باهر. لكن خلال الحرب الأهلية تراجعت الهيمنة الثقافية لجبل لبنان وتلاشت حتى في تصور متجدد للفضاءات المدينية الذي برز بوضوح في الأعمال الفنية التي خصصها زياد رحباني لفيروز. فمن خلال هذا التعاون بين المغنية وابنها، الملحّن والمسرحي، ترسخت في أعمال كثيرة المعاني المتناقضة والخاصة في مدينة مغلقة تعاني انقساماً حاداً.
تقدّم القراءة الثالثة أيضاً تمثيلاً متعدد الطبقات للماضي والحاضر الخاصين ببيت طفولة فيروز، والمدينة المتحولة، وفيروز نفسها، باعتبار ان شخصية فيروز ترمز إلى وطن تشكّل في مرحلة ما بعد الانتداب ليعود ويتمزّق لاحقاً فترة الحرب الأهلية. فالفتاة الخجولة المنطوية على نفسها ستصبح رمزًا لتوق البلاد إلى الحداثة. وكإمرأة ناضجة، ستصبح طيف وطن فتّته النزاع أراضي مغلقة ومتشظية، ولن يكون صوتها فقط بمثابة المشهد الوطني البديل، بل سيتعزز أيضاً ليحتل مدى أوسع كوسيلة خلاص من "مجد الرماد" وليصبح وعيًا جماعيًا مهيمنًا، حتى ولو غاب عملياً عن الحفلات الحية في بيروت بين 1978 و1994 تاريخ عودتها الكبيرة الى المدينة.
على مسارٍ موازٍ، تأثر بيت طفولة فيروز بتحولات بيروت التي كانت تطمح إلى أن تصبح مركزاً كوزموبوليتيياً إقليمياً قبل الحرب الأهلية. كذلك وللأسف، كان تدهور موقع بيت الطفولة في عملية التحول من مبنى عام إلى فضاء خاص وإعادة استخدامه في مرحلة ما بعد الحرب ليرجع أخيراً من جديد الى الحيز العام، تعبيراً واضحاً عن الظروف التي تحكم المدينة ولبنان إلى يومنا هذا. في سياق الرؤى المتضاربة للماضي والمستقبل، لا تزال المبادرات المطالبة بإعادة تأهيل هذا البيت المهجور تثير جدالاً لا يتوقّف في التطلعات حول المدينة والهوية، لعلنا لا نجعله يوماً ما، بيتاً آخر "بمنازل كثيرة".
* مازن حيدر مهندس في الترميم،
أكرم الريس باحث في انثروبولوجيا الفنون.
(1) وزارة الثقافة، القرار رقم 74، إدخال العقارين رقم 565 و567 في منطقة زقاق البلاط العقارية، محافظة بيروت، في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، الجريدة الرسمية، العدد 38، بيروت، 12/8/2010. ولم ينجُ سوى البيت المقام على العقار 567، فيما هُدِم البيت المقام على العقار 565 تماماً على الرغم من المرسوم الوزاري.
Mollenhauer, Anne, Continuity and change (2) in the architectural development of Zokak El-Blat (pp.109-142) in History, Space and Social Conflict in Beirut: The Quarter of Zokak el-Blat (VV.AA) Orient-Institut, Beirut (2005).
MAJAL, Académie Libanaise des Beaux-Arts, Université de Balamand, Urban conservation in Zokak el-Blat (2012).
(3) انظر مثلاً: سمير قصير، تاريخ بيروت، بيروت، دار النهار، 2003 - احمد بيضون، الصراع على تاريخ لبنان، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية،1989 - أحمد بيضون، ما علمتم وذقتم، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990 - كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة: التصور اللبناني بين التصور والواقع، بيروت، مؤسسة نوفل، 1988.
(4) Khalaf, Samir, On Collective Memory, Central Space and National Identity, in Conference lectured at the symposium "Beirut: Civil Pleasures, Civil Wars". Centre of Contemporary Culture of Barcelona, 5-7 June 2005, http://www.publicspace.org/en/text-library/eng/a023-on-collective-memory-central-space-and-national-identity,29/9/2014.
0 تعليقات