ترجمة: محمد مروان
كيف نفهم ارتباطاتنا الدائمة بالأشجار منذ الولادة حتى الموت؟ يعمل مؤرِّخ الحساسيات «ألان كوربان Alain Corbin» على تحليل العلاقة الوجدانية التي نقيمها -أحياناً- مع الأشجار التي تمثِّل شواهد جليلة على الزمن الذي يمرّ.
هل كانت لبعض الأشجار مكانة في حياتكم؟
– ألان كوربان: في بيت العائلة، وقد كان ديراً في السابق، توجد أربع شجرات «زيزفون» يعود تاريخ غرسها إلى سنة 1870، وكانت تشكِّل ممراً يشبه الزقاق، وهي لا تزال موجودة هناك إلى الآن. لقد ارتبطت بها منذ طفولتي. أذكر كذلك بعض أشجار الكستناء، وشجرة كرز ما زالت صامدةً، على الرغم من أنها متداعية. هذا التردُّد المُتكرِّر على الأشجار المُعمِّرة لعب، من دون شكٍّ، دوراً في تعلُّقي بدراسة علم التاريخ. كما أنني في الغالِب أكتب كتبي في هذا البيت.
والغابة؟هل هي مصدر إلهام بالنسبة إليكم؟
– أقول دائماً إن الغابة تخفي الشجرة وليس العكس. الغابة تلفت الانتباه. إلّا أنني أفضّل شجرة الحقل، شجرة الغابة الصغيرة. أما الغابة الكبيرة فهي ليست مألوفة لديّ، ولست على معرفة جيِّدة بها. وقد شكّلت مكاناً يُثير القلق والخوف في قصص وحكايات القرن الثامن عشر، والتي تكون نهايتها سيئة أو مأساوية. كما أنها تمثل قوة طبيعية وجب على الإنسان مقاومتها من خلال اقتطاع أجزاء منها حتى يجد لنفسه مكاناً. بالنسبة لي، ليس للغابة ذلك السحر والجمال اللذان للشجرة الوحيدة وسط البراري. لكن البعض، مثل «جان موطي Jean Mottet»، الأستاذ السابق بالسوربون، والذي كتب مؤخراً سيرته الغابوية «من أجل الشجرة ومن أجل العصفور»، تقديم «ألان كوربان»، كأنهم أبناء الغابة، منها ولدوا وفيها يعيشون وسط الأشجار. ومعلوم أن «موطي»، الصديق الفرنسي الوحيد لـ«ميازاكي Miyazaki»، يمتلك العديد من الهكتارات في منطقة الدوردوني (Dordogne). إنه يهتم بالخصوص بالغابة الصوتية، وعلى العموم بكل ما له علاقة بما هو محسوس في الغابة.
كيف تفسِّرون هذا الارتباط الوجداني بين الإنسان والأشجار؟
– إنه ارتباط موغل في القِدم. لقد لعبت الشجرة دوراً مهمَّاً في حياة البشر على مرِّ العصور. تحت بعضها كانت تتحقق العدالة. إلّا أن الشجرة كانت على وجه الخصوص رمزاً للفرد: في العديد من المناطق القروية (وفي منطقة «ليموج Limoge» على الخصوص) كان يتمُّ غرس شجرة تزامناً مع ولادة طفل جديد. هذا الأخير، وهو ينمو، كان يتماهى مع الشجرة ويستمر في زيارتها وتفقدها، حتى في حالة رحيله عن البلدة. تعرفون أغنية «براسنز BRASSENS» الجميلة: «بالقرب من شجرتي عشت سعيداً، لم يكن عليّ مغادرتها أبداً، بالقرب منها عشت سعيداً، ولم يكن لها أن تغيب عن عيني». هذا التماهي يحتوي على بُعد، من بين أبعاد أخرى، هو البُعد الطبي: كان الناس يعلّقون ملابس على الشجرة عندما يكون الطفل مريضاً أو جريحاً أملاً في أن الشجرة ستشفيه. والعديد من الكُتَّاب مثل «ثيوفراسط Théophraste» و«بّلين لو جون Pline le Jeune» استساغوا فكرة مقارنة الشجرة بالجسم البشري، حيث الجلد لحاء، والدم نسغ، والأطراف أغصان. أما فيما يخصُّ الرأس، فإنّ الأمر لم يكن على هذا القدر من الوضوح. هناك الجزء الأعلى من الشجرة طبعاً. لكن البعض رأوا في الجذور دماغاً على نحوٍ ما.
ألا يمكن أن نتحدَّث حتى عن ارتباط حميمي؟
– بالتأكيد؛ وما يشهد على ذلك هو العادة المُتمثلة في تقبيل الأشجار، والتي سبق وأن أشار إليها «إميل فيرهيرن Emile Verhaeren» في قصيدته بعنوان «الشجرة» (من ديوان: الروعة المضاعفة، 1906): «أتجه نحوها ممتلئ العينين نوراً، أتحسسها بأناملي ويدي/أحس بتمايلها حتى عمق الأرض/عبر حركة فوق بشرية هائلة؛/أضغط عليها بصدري الوحشي/بكل حب، وبكل شغف/حتى إن إيقاعها العميق وقوتها الكاملة/يخترقاني ويغوصان إلى حدود قلبي».
الأساطير تحفل بالأشجار المُقدَّسة كمحور للعَالَم
تتمتع الشجرة إذن بهالة من الجود والعطاء على العموم؟
– إنها مصدر خيرات وأفضال عديدة. هناك الثمار طبعاً. نتذكَّر هنا «روسو Rousseau» وهو يقطف التفاح على ضفاف بحيرة «بيين Bienne». لكن ليس هذا كل شيء. فالشجرة هي أيضا مأوى وملجأ نحتمي به من الأمطار الغزيرة ومن أشعة الشمس الحارقة. هذه الشجرة التي توفِّر الظل الوارف هي شجرة الأرياف عند « فيرجيل Virgile». يتعلّق الأمر طبعاً بمكانٍ متخيَّل، مكان للراحة والسكينة. لا شيء يدلُّ على أن فيرجيل كان حقاً يتمدَّد تحت الأشجار! إن لطف الشجرة، من حيث هي ملاذ نلجأ إليه ضد قساوة عناصر الطبيعة، وأيضاً ضد اضطراب العَالَم كما عند «روسو»، يمكن أحياناً أن يكون إيروسياً. فالشجرة المُجوَّفة على نحوٍ خاص هي المكان الذي يقصده العُشَّاق للاختفاء عن الأنظار، على غرار ما كان يقوم به «فيكتور هوغو Victor Hugo». يتحدَّث «هوغو» بالفعل عن «خلوات الحب في أعماق الغابات المفقودة/والشجرة التي تحتها تنسى أرواحهم المنصهرة كل شيء…!» (Tristesse d’Olympio,dans Les rayons et les ombres,1840). ويضيف قائلاً: «الحب مثل شجرة، ينمو من تلقاء ذاته، يلقي بجذوره عميقاً في كلية وجودنا، ويحافظ باستمرار على اخضراره في قلب مكسور». (Notre Dame de Paris,1831). والشجرة هي أيضاً ما ننقش عليه اسم المحبوب أو العشيقين معاً. ولا تزال الغابة هي وجهتنا المُعتادة في الغالب.
لكن الإنسان لا يكتفي بالاستلقاء تحت الشجرة، وإنما يتسلّقها أيضاً!
– فعلاً، مثلما كان يفعل أشباهنا من «الرئيسيات les primates». إننا نتسلّق الأشجار لأسبابٍ عديدة. من أجل قطف الثمار. من أجل بناء «كبائن cabanes»، هذا المُتخيَّل الذي أصبح يحظى باهتمامٍ كبير حالياً، وهو يرتبط طبعاً بنوعٍ من الوعي الإيكولوجي والرغبة في «العودة إلى الطبيعة». كما أن هناك مَنْ يتسلّقها فقط من أجل رؤية الأشياء من زاوية مختلفة. ولعلّ هذا ما ينطبق على حالة العَالِم الإيكولوجي «جون موير John Muir»ـ (1838 – 1914) الذي تسلّق صنوبرة يبلغ علوها عشرات الأمتار في «دوغلاس Douglas» من أجل ملاحظة الطبيعة، والإنصات للريح، واستنشاق العطور، واكتشاف رقص الأشجار، إلخ. لقد كان يشاهد بإعجاب «حركات مختلف الأشجار وهي تتمايل بفعل الريح»، «حركاتها العاطفية» (Forêts dans la tempête et autres colères de la nature). كما يتحوَّل الوصف ليأخذ منحى دينياً: «هذه الأبراج الضخمة من ستين متراً علواً، تلوح مثل سبائك ذهبية رقيقة، ترتل وتسجد كأنها تصلي».
هناك ارتباط وثيق بين الشجرة والدين؟
– لا شكّ في ذلك. فالأساطير تحفل بالأشجار المُقدَّسة كمحور للعَالَم. والعديد من الأشجار في أوروبا استُخدمت كفضاءات للعبادة الوثنية. كما أن المسيحية قامت بعملية اجتثاث عدد كبير من هذه الأشجار وعوَّضتها بعبادة القديسين المحليين. ولعلّ هذا هو ما قام به «شارلمان Charlemagne» أيضاً: فقد اجتث الشجرة المُقدَّسة لدى الساكسونيين سنة (772م)… مما أدى إلى نشوب حرب العشرين عاماً. لكن، في بعض الأحيان كان يتمُّ فقط تجويف جزء صغير من هذه الأشجار بهدف وضع تمثال للعذراء. وبعض الأشجار، خاصة في منطقة «نورماندي Normandie»، تحوَّلت إلى كنائس صغيرة للصلاة. كما أن العديد من الشعراء، بمَنْ فيهم المسيحيون، مثل «شاتوبريان Chateaubriand»، سيقارنون الغابة بالكاتدرائية. والواقع أن الأشجار ليست غائبة عن الإنجيل: شجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، أو أيضاً شجرة «يسّى Jessé»، الشكل النباتي الذي يمثل «جينيالوجيا» أو نسب المسيح، ومن ثمَّ «جينيالوجيا» الزمان والتاريخ حتى لحظة ولادة المسيح.
للشجرة علاقة خاصة بالزمان، فهل هذا هو سرُّ جلالها؟
– تتمتع الشجرة بجلال لا يُنكَر. إنها بمثابة صلة وصل أو جسر كوني بين الأرض والسماء. إلّا أن ما يدهش الناس فعلاً هو طول عُمرها العجيب. فهي تكاد تكون خالدة. وإذن فهي حاملة للزمان ولذاكرة تتجاوز بشكلٍ كبير الوجود العابِر للبشر. خذ مثلاً أشجار «شارلمان» العديدة، أو أشجار «جان دارك Jeanne d’Arc»، وهي لا زالت موجودة في فرنسا. إن الشجرة هي ارتباط بالماضي. وعندما تمَّ استكشاف الحدائق الطبيعية الأميركية الرائعة، مثل حديقة «يوسمايت Yosmite»، اندهش المُستكشفون، وقالوا بتعجب: لا شكّ أن هذه الأشجار كانت موجودة منذ زمن عيسى المسيح. الشجرة قاهرة ومطَمْئنة في الوقت نفسه.
ربما هي، لهذا السبب، مصدر إلهام للشعراء؟
– من دون شكّ. فالشجرة حُبلى بالدلالات والمعاني:ليس غريباً إذن أن يوظفها الشعراء خدمةً لأغراضهم الشعرية. في «التأملات Les Contemplations» يخصِّص فيكتور هوغو نصوصاً جميلة للأشجار: «أنا الحالم؛ أنا الرفيق/لهذه الأزهار الذهبية الصغيرة على الجدار المُتداعي/ومُحاور الأشجار والريح». وشعراء العصر إنمّا يقصدون الطبيعة من أجل سماع الأشجار. ذلك أن الأشجار لها صوت بالنسبة لهم. إنها تكلِّم بعضها البعض، تُحادِث وتُحاوِر بعضها البعض، إلخ. إنها تعبِّر كما لو كانت قيثارات هوائية طبيعية. هذه الشعرية المُرتبطة بالأشجار وعالم النبات تبلورت على نحوٍ خاص في إنجلترا، مع تركيز قوي وملحوظ على النباتات البرية. وهذه البرية هي أيضاً ما كان يعشقه «ديفيد هنري ثورو David Henry thoreau»، إنسان «والدن Walden»: إنه يقدِّر كل ما ينمو بنفسه، بحريّة، ودون أن يكون موجَّهاً من قِبل الإنسان. هكدا تصبح الشجرة تقريظاً للبرية.
لكن البرية أو الوحشية هذه تضفي عليها طابعاً مزعجاً؟
– على كلِّ حال، هناك عنفٌ متخيَّل يلازم الشجرة وقليلاً ما نقف عنده. إنّ تسلُّق الشجرة لا يخلو من مخاطرة السقوط. والشجرة لا تنفصل عن الفأس، رمز القوة والعنف الذي يتجلّى قبل كل شيء في قطع الأخشاب. علاوة على ذلك، في رواية «رولان المجنون Roland furieux»ـ (1516) لـ«أرسطو L’Aristote»، عندما كان البطل يغضب، كان يقطع الأشجار ويجتثها ويحاربها!
بغض النظر حتى عن الحديث عن العنف، فإن العُمر الطويل للشجرة يضع الإنسان وجهاً لوجه أمام مأساة موته الخاص والشخصي؟
– نعم. إن غرس أشجار على القبور أو بجانبها هو سلفاً ممارسة تقليدية. منذ بضع سنوات، خاصة في الولايات المُتحدة، يعمد البعض، حتى بعد الوفاة، إلى حقن الشجرة بحمضهم النووي (ADN) أملاً في الاستمرار في العيش بعد الموت. تجعلنا الشجرة نستحضر فكرة الخلود وتقودنا نحو نهائيتنا الخاصة. إنه تحدٍ، وربما هو التحدّي الأكبر الذي يتوجَّب على الإنسان مواجهته.
حوار: أوكتاف لارمانياك-ماثرون
المصدر:
Philosophie Magazine, Hors-Série N53 ,2022, pp. 70-76.
0 تعليقات