كريم مروة
__________________________
يّب الموت في الآونة الأخيرة الفنان اللبناني الكبير منصور الرحباني، بعد 22 عاماً على رحيل شقيقه الفنان الكبير عاصي. وقد أحدث غيابه ضجة كبيرة في عالم الموسيقى والغناء والمسرح، وفي عالم الثقافة والسياسة. وظلت وسائل الإعلام، على امتداد أسابيع، تتحدث عن الدور الذي لعبه هذا الفنان مع شقيقه عاصي، ثم أكمله بعد رحيله، في إبداع تميّز به وحمل اسمه، في عدد من المسرحيات التي عرضت في أكثر من بلد عربي.
كان آخر هذه المسرحيات مسرحية «عودة الفينيق» التي ألفها هو وأخرجها ابنه مروان، وألف الموسيقى فيها ابنه أسامة. وهي المسرحية التي انطلقت من دولة الإمارات العربية المتحدة بنجاح كبير وجاءت إلى لبنان لتلاقي النجاح ذاته وأكثر. وفي الحقيقة فحين نستعرض سيرة ومسار كل من عاصي أو منصور سنجد صعوبة في الحديث عن أي منهما من دون الربط بينهما. فاسم «الأخوين رحباني» أصبح، منذ بداية الظاهرة الرحبانية، هو الاسم الذي اشتهر به هذان الأخوان في عملهما الموسيقي الرائد، وفي الأغنية الجديدة، وفي المسرح الغنائي الحديث.
ووصف المسرح الغنائي الرحباني بالحديث لا يدل دلالة دقيقة على واقع الحال. فلا يوجد، في تاريخ الموسيقى والغناء العربيين، بحسب معرفتي ـ وهي قليلة، مثل هذا النوع الذي اشتهر في أوروبا باسم الأوبريت، علماً بأن «الأخوين رحباني»، كما أعلم، لم يربطا مسرحهما الغنائي ربطاً واضحاً بالأوبريت الكلاسيكية. فمسرحهما الغنائي هو مسرح عربي جديد، بالمعنى الذي أراداه لمسرحهما هذا. وهو مسرح مختلف عن «أوبريت» قيس وليلى المعروفة. أقول ذلك ببساطة، من دون ادعاء المعرفة بهذه المسألة، ومن دون أن أتمادى في الخوض فيها، إلا أن العارفين بهذه المسألة يقولون بأن مسرحهما هذا هو أقرب إلى المسرح الغنائي الذي اشتهرت به الدول الأنغلو-ساكسونية، مع فارق يميزهما يتمثل في التركيز على معالجة القصة الدرامية والحبكة المسرحية والتجديد في الشعر الغنائي وفي التأليف الموسيقي.
إلا أن بروز الظاهرة الرحبانية، ارتباطاً باسميّ الأخوين عاصي ومنصور، لا يلغي بعض الفوارق بينهما، سواء في العمل الإبداعي الموسيقي أم في العمل الإبداعي الشعري، أم في الخصائص الشخصية التي تعطي لكل منهما سماته الخاصة به التي يختلف فيها عن الآخر. هذا أمر طبيعي. وأعتقد أنه من الصعب التمييز بينهما إلاَّ لمن عرفهما معرفة جيدة، وعرف بالدقة تفاصيل إسهام كل منهما في هذا العمل الإبداعي المشترك. ولا أدعي لنفسي هذه المعرفة، رغم أنني كنت قد تعرفت إليهما منذ وقت مبكر. ولم ألتق بعاصي إلا قليلاً.
في حين أن صداقة حميمة نشأت بيني وبين منصور على امتداد عقدين من الزمن. لكن هذه المعرفة بشقيها لا تؤهلني لأن أحدد بدقة التمييز بينهما في عملهما الإبداعي المشترك. غير أنَّ قراءة عامة لتاريخهما تشير إلى بعض الفوارق بينهما، رغم إصرارهما، منذ مطالع شبابهما، على الظهور معاً في كل ما يتصل بعملهما الإبداعي في الموسيقى وفي الشعر.
ثم جاءت فيروز لتنضم إلى الثنائي، ليصبح الثنائي ثالوثاً. ويستمر هذا الثالوث على هذا النحو عقوداً من السنين. أما الياس، الأخ الأصغر لعاصي ومنصور، الذي تعرفت إليه منذ بضعة أعوام، فقد نشأ مختلفاً عن أخويه. وظلَّ مختلفاً عنهما، في مدرسته الموسيقية، وفي ثقافته، وفي مجمل عمله الموسيقي وغير الموسيقي.
الرحبانية في رموزها الثلاثة: عاصي ومنصور وفيروز
الملفت للنظر هو أن الأخوة الثلاثة قد أنجبوا أولاداً موسيقيين. ولكل من هؤلاء الأولاد مدرسته الخاصة به، حتى وإن بدا الواحد منهم، بهذا القدر أو ذاك، متأثراً بأبيه. وهو ما لا أستطيع الخوض فيه لدقته، وللحاجة إلى الثقافة الموسيقية الضرورية لكي يكون الرأي والحكم في هذا الشأن صحيحاً وسديداً.
ورغم أنني لا أنتمي إلى أولئك الذين يمتلكون ثقافة موسيقية، فإنني أحببت الموسيقى منذ شبابي الأول. وبدأت أستمع إلى الكلاسيكي منها وأستمتع به، وأستمع إلى الطرب العربي وأستمتع به، من دون أن أبذل أي جهد في تحديد المعنى المعرفي لهذا الاستمتاع. وحين سألت ذات يوم صديقي ونسيبي، الناقد الموسيقي نزار مروة، وصديقي الموسيقي زياد الرحباني عن هذا الأمر أجاباني ببساطة: إذا كنت تستمتع استمتاعاً حقيقياً بالموسيقى الكلاسيكية، وهي موسيقى صعبة ومعقَّدة، فلا تجهد نفسك بالبحث عن معنى هذا الاستمتاع. وهو ما قاله لي صديقي الفنان التشكيلي بول غيراغوسيان بشأن علاقتي باللوحة الفنية.
وجوهر ما ذهب إليه أصدقائي الثلاثة هو أن علاقة الإنسان الفرد بجماليات الأشياء، سواء ما تقدمه الطبيعة للمشاهد، أو ما يقدمه الفنان المبدع للمستمع وللقارئ وللمشاهد، هي علاقة خاصة بهذا الإنسان الفرد، تغذيها الثقافة، ويغذيها الإحساس الفني، وتغذيها أمور عديدة أخرى لا تحصى شروط تكونها. وهذه الشروط هي مختلفة باختلاف الأفراد واختلاف أمزجتهم وباختلاف مستويات ثقافاتهم، وباختلاف الظروف التي نشأوا فيها وتكوَّنوا.
وفي هذا السياق في الحديث عن علاقة الإنسان بالفنون، أستذكر باعتزاز الدور الذي لعبه في العلاقة التي نشأت بيني وبين الموسيقى الكلاسيكية، خصوصاً، نسيبي وصديقي الناقد الموسيقي الراحل نزار مروة، عندما بدأت علاقة الصداقة بيننا في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، أي عندما كنا لا نزال كلانا في بدايات شبابنا. وكنت في ذلك التاريخ أقيم في مدينة الكاظمية في العراق ضيفاً على حسين مروة (أبو نزار)، أتابع دراستي الثانوية برعايته وبتوجيهاته، التي أسهمت في تكوين شخصيتي الفكرية والسياسية.
شهرة بلغت الآفاق
لم ألتقِ بالأخوين رحباني إلاَّ في أواسط ستينات القرن الماضي، بعد أن كانت شهرتهما قد بلغت ذروتها. وكان ذلك اللقاء عابراً. وكنت أتابع، منذ مطلع الخمسينات، أسوة بسواي من عشاق الموسيقى والغناء، كل ما كان يصدر من أغانٍ كانت معظم ألحانها من تأليفهما، لا سيما ما كان قد بدأ يظهر من هذه الألحان في أغاني فيروز، ابتداء من أغنية «عتاب» وما تلاها من أغانٍ تستعصي على النسيان، وتستقر، لحناً وصوتاً وكلمات، عميقاً في الوجدان. ولا يمحو تأثيرها في النفوس مرور الأيام والأعوام وتغير الظروف والأحوال.
وكنت أتلقى أخبارهما من بعض أصدقائي الذين كانت تربطهم علاقة صداقة بهما. وكان أقربهم إلى الناقد الموسيقي نزار مروة والأديب محمد دكروب. فمن خلالهما كنت أعرف الكثير مما كان يحيط بعالم هذين الفنانين الكبيرين، وشريكتهما في الإبداع فيروز، الذين كانوا قد ملأوا الدنيا العربية وشغلوها. وإذ كان الأخوان عاصي ومنصور يبدعان في الموسيقى وفي الشعر، فقد كانت فيروز تبدع في الأداء بصوتها الساحر.
وفيروز، أمد الله بعمرها، هي من نوع البشر الذين يتقدم بهم العمر ويظلون قادرين على ممارسة العمل الإبداعي. وتظل فيروز هي ذاتها فيروز التي لا تكبر. وتظل تغني بدون توقف. بل هي، برغم وزنها في عالم الغناء لم تتردد في الإستجابة في غنائها الحديث لما كان يطلبه منها ابنها الفنان المبدع زياد وهو يعيد توزيع ألحان أغانيها القديمة من تأليف والده عاصي وعمّه منصور، أو من تأليف شريكهما فيلمون وهبي، فضلاً عن الأغاني الحديثة التي وضعها هو لها لحناً وكلمات.
تعرفت إلى الأخوين رحباني، كما أشرت إلى ذلك، في أواسط الستينات في القرن الماضي. ورغم أن العلاقة كانت عابرة، إلا أنها زادتني قرباً من فنهما، وزادتني معرفة بالخصائص الفنية لكل منهما. وبدا لي، مع الوقت، كما لو أن عاصي كان أكثر تميزاً في الموسيقى، في حين كان منصور أكثر إبداعاً في الشعر، أو هكذا كان يُخيَّل إلى من جرَّاء ما كنت أسمعه من تقييمات بعض العارفين بعالم الأخوين رحباني. لكن الحقيقة أن كليهما كانا يؤلفان الموسيقى ويوزعانها وينظمان الشعر في ثنائية رائعة التكوين شكلت الظاهرة الرحبانية غير المسبوقة في عالم الموسيقى والغناء والشعر والمسرح.
علاقة حميمة مع منصور
أضيف إلى ذلك، من معرفة تكونت عندي من علاقتي الحميمة مع منصور، أنه قد تابع، أي منصور، بعد رحيل عاصي عمله الإبداعي الذي برز فيه الطابع الخاص به في شخصيته المستقلة نسبياً عن الأخوين رحباني، كظاهرة، والمكملة لها في الآن ذاته. وتمثلت عناصر الإبداع الجديدة في أعمال منصور المشار إليها مع كثير من التفاصيل المهمة في كل من الموسيقى والشعر واللغة والبعد الفلسفي.
وأذكر أنني حملت إليهما، في ذلك اللقاء، المشار إليه برفقة نزار مروة ومحمد دكروب، ترجمة لمقطع من مسرحيتهما «جسر القمر» (كنز الكنوز)، كنتُ قد نقلته إلى الفرنسية، ونُشر في المجلة التي كان يصدرها مجلس السلم العالمي في فيينا. وكان ذلك مفاجأة سارة لهما. إذ كانت تلك المجلة واسعة الانتشار في العالم. وكانت تصدر بعدة لغات.
كنت قد بدأت أسمع من هنا وهناك، منذ بداية تعرفي إلى الظاهرة الرحبانية، بأن الموسيقي العبقري بين الرحبانيين هو عاصي، مع التأكيد في الوقت عينه على الدور الأساسي لمنصور في الموسيقى وفي الشعر، إلا أن هذه المقولة لم تكن دقيقة، كما تبين لي فيما بعد، لا إنتقاصا من عاصي وقيمته ولا دفاعا عن منصور، فالحقيقة هي أن إبداع عاصي ومنصور كان على الدوام ومنذ البدايات فعلا مشتركا ومتكاملا بين الثنائي الأخوين رحباني. وكان نزار مروة، دليلي الدائم إلى معرفة الحد الأدنى الضروري من الثقافة الموسيقية التي كلما كانت تزداد، ولو بحدود، كانت تعطي لمتعة الاستماع عندي إلى الموسيقى متعة إضافية.
وكان نزار يحرص في حديثه معي عنهما على التأكيد على الأهمية الاستثنائية لطبيعة العلاقة بين الأخوين في عملهما الإبداعي. ولنزار فضل كبير على في أنه أدخلني في عالم الموسيقى السحري. واستناداً إلى هذا العشق عندي للموسيقى فقد اقتنيت في مكتبتي، حيث كنت أقيم في خارج البلاد ما يقرب من عشر سنوات، في بودابست أولاً، ثم في فيينا، ثم في وارسو وفي موسكو، الكثير من الأسطوانات التي كانت تجمع أعمال الرحابنة المسرحية الغنائية، بصوت فيروز على وجه الخصوص، وبأصوات نصري شمس الدين أساساً، ووديع الصافي وصباح وأخرين.
ما بعد العودة للبنان
وحين عدت إلى لبنان، بعد إقاماتي الطويلة تلك في الخارج، لم أترك مسرحية من مسرحيات الرحابنة إلاَّ وحضرتها، ودائماً برفقة نزار، كدليل موسيقي إلى معرفة ما كنت بحاجة إلى معرفته من المعاني والدلالات التي توحد بين اللحن والغناء والرقص وسائر مكونات المسرح الغنائي. وصادف أن نصري شمس الدين، أحد الأبطال المرموقين في مسرح الأخوين رحباني، كان من أصدقائي القدامى.
إذ درَّسني الموسيقى في مطالع شبابي في أواسط الأربعينات من القرن الماضي. فكنا نلتقي، في فترات الاستراحة، خلال بعض العروض المسرحية، أو في أوقات أخرى. وكان نصري يضيف إلى معرفتي بالرحابنة معرفة جديدة كنت أجهلها في الظاهرة الرحبانية.
ثم كبرت الظاهرة. وصارت، في الموسيقى وفي الغناء وفي المسرح الغنائي، الظاهرة الأبرز في العالم العربي، في هذا الفن الأصيل. وأضيفت إليها السينما، لكن بوهج أقل، كما بدا لي، وكما جاء على لسان بعض النقاد السينمائيين. وقبل أن أسترسل في الحديث عن هذه الظاهرة أتوقف قليلاً عند سيرة «الأخوين رحباني»، منذ طفولتهما وشبابهما وصولاً إلى بداية الطريق إلى الشهرة.
وهي معلومات استقيتها من عدة مصادر أهمها كتاب الشاعر هنري زغيب «الأخوين رحباني طريق النحل» وكتاب جوزيف أبي ظاهر «الأخوين رحباني- هوامش من سيرة ذاتية»، وكتاب نزار مروة الذي صدر بعد وفاته بعنوان «في الموسيقى العربية والمسرح الغنائي الرحباني».
القبضاي شيخ الشباب
لنقرأ هذه الكلمات التي يتحدث فيها منصور عن نشأتهما في كنف والدهما حنّا عاصي الرحباني، أبو عاصي، المعروف بالقبضاي شيخ الشباب. وهي مقتطفات من الحوار الذي سجله الشاعر هنري زغيب:» حكايتنا، عاصي وأنا، قصة شقيقين كأنهما توأمان. ربيا في ظل الأسئلة الكبيرة. وطرحا الأسئلة الكثيرة. وقالا بالكلمة والنوتة ما اعتقدا أنه بعض الجواب. لكنهما لم يقطفا أبداً أيّ جواب.
إنها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال ومغاور بلدة أنطلياس التاريخية... حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المر، والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعاً حافية على أطراف مخدَّة ممزّقة فوق فراش عتيق. حكايتنا، عاصي وأنا، مجموعة لوحات طفولة كانت تشتهي ما لا تطاله العين، وتحلم بما لا تطاله اليقظة، وتكبر على أخبار عنترة والقبضايات وكراسي الزبائن في «مطعم الفوار» تتردَّد بعد رحيلهم أنغام بُزُق القبضاي «شيخ الشباب» أبو عاصي.
في ظلّ والدنا حنّا عاصي الرحباني، الشخصية الغريبة والقريبة معاً، نشأنا وكبرنا، عاصي وأنا. و«أبو عاصي» هو من حي «عين السنديانة» في بلدة الشوير. ينتمي في أصل جدوده إلى قرية رحبة في عكار. هاجر والداه إبان موجة الهجرة اللبنانية، إثر أحداث 1860، هرباً من جور العثمانيين. وُلد في طنطا (مصر). ويتذكَّر أن ولادته كانت سنة ثورة عرابي باشا (1882).
عاد فتى إلى بيروت، وسكن في حي الرميل، مشتغلاً لدى نسيبه الصائغ ديب عاصي... كان حنّا يطمح أن يكون صائغاً محترفاً. لكنها مهنة لم تكن تدرُّ عليه كما يرغب، فيما مهنة أخرى شائعة عهدئذٍ، كانت تدرُّ مالاً وفيراً. إنها مهنة القبضايات. لذا كان يقبض أجرته الأسبوعية، ويذهب مع بعض قطَّاع الطرق إلى ضهر البيدر أو إلى وادي اللَّبِّيش مع «الطيَّاحين» (الطائحين) فيعود بمغانم أكثر. وشخصية «القبضاي» ترددت لاحقاً في غير واحد من أعمالنا (منها «أبو أحمد» في فيلم «سفر برلك»، والقبضايات في مسرحية «لولو»). وكان دائماً يحمل مسدسات وخناجر ومِدى وأسلحة مختلفة.
وغير مرَّة كانت له في بيروت جولات إطلاق نارٍ مع العثمانيين، حتى حكموا عليه بالإعدام غيابياً. فلم يعد أمامه سوى الفرار من ولاية بيروت. ففي ذلك العهد، أيام المتصرفية، لم يكن القانون العثماني يطال ولاية جبل لبنان التي تبدأ حدودها شمالاً عند نهر بيروت. كان في جبل لبنان حكم ذاتي ذو حصانة وامتياز، تحميه سبع دول ويديره متصرِّف لا يخضع لحكم ولاية بيروت... وصل والدي إلى أنطلياس واستقرَّ فيها، متَّخذاً من بقعاة على فوار أنطلياس مقهيً جعله ملتقى الفارّين من حكم الإعدام العثماني وجور العثمانيين.
من أولئك «القباضيات» الياس الحلبي، غندور زريق، الحاج عبد السلام فرغا، أحمد الجاك، أبو راشد دوغان.. وكان يقصد المقهى (وكان اسمه «مقهى فوار أنطلياس») زبائن كثيرون من بيروت وجبل لبنان، يشدُّهم إليه أمانٌ في الخارج، وطربٌ في الداخل «على رنين بزق حنّا عاصي. كان والدي أميّاً. وكان يعرف من أسرار الحياة أكثر مما تُعلِّم المدارس. فهو من جيل ربي على خميرة البركة وراحة البال. وكانت له في «مقهى الفوار» إمبراطورية خاصة يديرها بطبعه المشاكس الذي لا يهادن في أمور الأخلاق (بعد حياة «الطياح» التي عاشها، تاب إلى الاستقامة).
لذلك كتب إعلانين على مدخل المقهى ضد مصلحته تماماً. الأول بالعربية يقول: «المرجو من ضيوفنا الكرام أن تكون أساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الأخلاق، وأن يحرصوا من الشراب أن لا يورِّطهم بما يخل بالآداب. ممنوع كل شيء ضد الآداب. ممنوع على الرجل أن يجلس قرب زوجته بل قبالتها. ممنوع أن يلقِّمها بيده. ممنوع كل حركة غير عادية. وإذا خالف أحدٌ هذه القوانين لقي ما لا يحب. (الإمضاء: حنّا عاصي الرحباني).
في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، كان حنّا الرحباني يصطاف في بلدة شويا، ويشرف على مقهى «الينابيع». وصادف أن وجد عاصي في المقهى عشر ليرات لبنانية. أعطاها لوالده فعلَّقها الوالد على مدخل المقهى، علَّ صاحبها يعود ويأخذها. ثم مرت أسابيع، والليرات العشر معلَّقة، ولا من يسأل، ولا من يهتم للأمر، سوى عاصي الذي شقَّ عليه أن تبقى في مكانها، وهو يتأملها كل يوم، ولا يستطيع التصرف بها. وخطرت له فكرة.
جاء بورقة (من كيس ترابه) في حجم الليرة، وقام بعملية تزوير للورقة النقدية الأصلية، وأخذها، ووضع مكانها على مدخل المقهى الورقة المزوَّرة. ونزل إلى أنطلياس، وبحوزته الكنز الذي مكَّنه من شراء كمنجة بسبع ليرات، وهيأ له شروط الدخول في الكونسرفتوار لدرس أصول العزف على يد الأستاذ أدوار جهشان. في عام 1937 أصدر عاصي الرحباني مجلة أسبوعية اسمها «الحرشاية»، كان يحررها وحده، ويكتبها بخط يده، وبالقلم الرصاص، على دفتر مدرسي. وكانت تتضمن المجلة افتتاحية بتوقيع «حرشي»، ومقتطفات شعرية، وخواطر وجدانية، وكلمات بأسماء مستعارة، إضافة إلى بعض المشاهد المسرحية. وكانت الكتابة باللهجة اللبنانية وباللغة الفصحى.
إلا أن المحطة الفنية الأولى في حياة عاصي ومنصور كانت حين جاء الأب بولس الأشقر (1882 ـ 1952) إلى أنطلياس، بعد أن درس الموسيقى الشرقية والغربية على أيدي أساتذة لبنانيين وأجانب. وكان الأب الأشقر قد عين في لجنة اختيار أفضل لحن للنشيد الوطني اللبناني، وهو المعلم الأول للألحان الطقسية المارونية. وكان كعادته، حين يصل إلى بلدة، أو إلى قرية، يجمع حوله نخبة من الشباب، يختار من بينهم أصحاب الأصوات الجميلة، ويؤلف جوقة يعلمها المبادئ الأولى في الموسيقى. وكان منصور من بين الذين ضمتهم جوقة الأب بولس الأشقر. واستبعد عاصي من الجوقة، لأن صوته لم يكن من الأصوات الجميلة.
فصار يأتي مع شقيقه في ساعات التمارين، ويقف قبالة الجوقة، يستمع من مكان بعيد. ذات يوم، كان الأب الأشقر يدرِّس جوقته نظرية «التيتراكورد»، فطلب منهم تفسير تلك النظرية. وحين جاءت الشروحات غير صحيحة، قال عاصي من بعيد «أنا بعرفها». فردَّ الأب الأشقر «إذا عرفتها بدي علمك»... وعرفها... وصار يعلِّمه.
الرحبانية في رموزها الثلاثة: عاصي ومنصور وفيروز 2
واظب عاصي ومنصور وحدهما على الدروس الموسيقية. فعلَّمهما الأب الموسيقي النوتة وأصول الموسيقى الشرقية والأنغام. ووجَّههما خير توجيه، وأطلعهما على مراجع نادرة في الموسيقى الشرقية، منها: كتاب كامل الخلعي، وأشياء عن الكندي والفارابي، وكتاب « الرسالة الشهابية في قواعد ألحان الموسيقى العربية»، للدكتور ميخائيل مشاقة (1800 ـ 1888). وكان هذا الأخير قد أهداها إلى الأمير بشير الشهابي. واعتُبِرت بمثابة عمل موسيقي كامل.
وقد درس عاصي ومنصور الموسيقى الشرقية على الأب الأشقر على امتداد ست سنوات. وتابعا درس التأليف الموسيقي الغربي لمدة تسع سنوات. وكان أستاذهما هو برتران روبييار. وكانت تلك الدراسة بطاقة مرور إلى موهبتهما التي «غيَّرت واقع الموسيقى والأغنية في الشرق» حسب تعبير الموسيقار محمد عبد الوهاب. وقد جاءت دراستهما للموسيقى الغربية في الفترة التي كان قد أصبح فيها عاصي بوليس بلدية وكان قد أصبح منصور بوليس عدلية.
وكانا، إلى جانب حبهما للموسيقى، شغوفين بالمسرح. وكان المسرح في تلك الفترة يقتصر على المسرحيات التاريخية والدينية، ومعظمها مقتبس عن اللغة الفرنسية. وكانت تلك المسرحيات تمثل باللغة الفصحى، أو بالشعر. وكان من بين تلك المسرحيات مسرحية «إيليا» و«حسناء الحجاز» وهما من تأليفهما. أما موضوع المسرحيتين فكان مستوحى من قصة لإميل حبشي الأشقر. في حين أن مسرحية «في سبيل التاج» كانت مترجمة، قام بترجمتها حليم دموس. وكانت تجربتهما الأولى في المسرح في المدرسة مع أستاذهما فريد أبو فاضل.
تأسيس نادي أنطلياس
في فترة لاحقة ساهم عاصي ومنصور مع مجموعة من رفاقهما في تأسيس «نادي أنطلياس الثقافي ـ الرياضي». وكان من بين نشاطات النادي تقديم مسرحيات غنائية. وكان أبرز تلك المسرحيات مسرحية «النعمان الثالث ملك الحيرة»، التي أخذا موضوعها عن معلمهما فريد أبو فاضل، وصاغاها شعراً، ولحنّاها ومثَّلاها. ثم ألَّفا سيناريوهات دينية. كما ألَّفا مسرحيات مستوحاة من البيئة اللبنانية، ومشبعة بالفولكلور وبالتقاليد والعادات. وقد عُرضت في القرى المجاورة أعمالهما المسرحية.
وأطلق الناس على فرقتهما اسم: «فرقة بيت الرحباني» التي انطلقت، بعد ذلك، وتحولت إلى فرقة جوالة تحيي الحفلات في أشهر مقاهي وكازينوهات لبنان في الأربعينات. وقد رافقتهما في بعض أعمال تلك المرحلة الفنانة سميرة توفيق، يوم كانت ما تزال في أول طريقها إلى الشهرة. ثم تعرفا إلى الفنان خليل مكنيه. وكان عازف كمان وتشيللو. وكان معروفاً بتأليفه للموسيقى الغجرية «تسيغان». وهو ابن أخت الموسيقي اللبناني المعروف توفيق الباشا.
كما تعرفا إلى زكي ناصيف، الذي سبق الجميع إلى تعلَّم أصول الموسيقى الشرقية والغربية والتلحين، وأجاد العزف على البيانو. وزكي ناصيف، الذي رحل بعد عاصي وقبل منصور، هو واحد من كبار الموسيقيين اللبنانيين. إلا أن عاصي ومنصور لم يكتفيا بنشاطهما في ميدان المسرح والموسيقى والشعر. بل ساهما، مع أعضاء نادي أنطلياس، الذي كانا من مؤسسيه، بإقامة عيد الليمون في أنطلياس. وسرعان ما تحوَّل هذا العيد إلى ما يشبه الكرنفال. إذ كانت تقدم فيه مشاهد استعراضية، ومواكب، وحفلات. ويعتبر هذا العيد من أهم النشاطات الفنية لتلك المرحلة من خمسينات القرن الماضي. إذ كان يحضره رئيس الجمهورية وعشرات الألوف من اللبنانيين الذين كانوا يأتون إليه من كافة المناطق.
انتسب عاصي إلى الأكاديمية اللبنانية، التي كان يشرف عليها الموسيقي اللبناني وقائد الأوركسترا المعروف ألكسي بطرس. فوضعه أستاذه في فئة «الباس». وبعد فترة من الدراسة تعرف إلى الأستاذ برتران روبييار، فعلَّمه مع شقيقه منصور أصول «الهارموني»، و«الكنتربوان»، وهي أصول وقواعد موسيقية يعرفها أهل الموسيقى. وبعد تسع سنوات من الدراسة بدأ اسم عاصي ومنصور ينتشر، وتنتشر معه أغانيهما في المقاهي والكازينوهات. وبعد فترة من تقديم أعمالهما في إذاعة لبنان تبنّى أغانيهما القصيرة مدير الإذاعة يومذاك فؤاد قاسم. وكانت مدتها لا تتعدى الدقائق الثلاث. ويقول مؤرخو تلك الحقبة في الموسيقى والغناء أن تلك المدرسة الجديدة في الغناء قد حلَّت محل المدرسة القديمة ذات الأغنيات الطويلة.
اشتهار الأغنية الرحبانية
لم يمضِ وقت طويل حتى اشتهرت الأغنية الرحبانية. وبدأ الناس يرددونها في سهراتهم، وفي مجالسهم. وصارت على كل شفة ولسان. ووصل صداها إلى صبري الشريف، رئيس القسم الموسيقي في محطة الشرق الأدنى، التي كانت تذيع من جزيرة قبرص. وإذ أدرك الشريف أهمية أعمال الأخوين عاصي ومنصور، وكونها لقيت استحسان الجمهور سارع في المجيء إلى بيروت ليقابل الفنانين. وأقنعهما بالتعاون معه في تقديم البرامج والاسكتشات والأغنيات والإعلانات في إذاعة الشرق الأدنى.
في إذاعة الشرق الأدنى عملت معهما شقيقتهما نجوى لفترة قصيرة. ثم طلَّقت الفن لتتزوج من المحامي عبدالله بشارة الخوري، نجل الأخطل الصغير. وحلَّت مكانها المطربة حنان. ثم جاءت نهاد حداد (فيروز) لتشارك حنان في بعض الأغنيات (ثنائي)، ثم لتغني من إذاعة بيروت أول أغنية من ألحان عاصي (1949) كتب كلماتها الشاعر قبلان مكرزل، وعنوانها «حبذا يا غروب»، وتبعتها أغنية «عتاب»، من تلحين عاصي أيضاً، التي كانت بداية رحلة فيروز في عالم الغناء الفيروزي الرحباني.
تلك كانت المرحلة الأولى من مسيرة الأخوين رحباني. أما المرحلة الثانية فكانت في مطلع الخمسينات، يوم تولى الكاتب والصحافي السوري أحمد عسٌّه، صاحب جريدة «الرأي العام»، مديرية إذاعة دمشق. ففي محاولة لتجديد الإذاعة وتطويرها اتصل بالأخوين رحباني واتفق معهما على تقديم أعمالهما الغنائية من تلك الإذاعة. وانضم إليهما الموسيقي فيلمون وهبي، الذي كان قد سبقهما إلى العمل في إذاعة دمشق. كما انضمت إليهما فيروز.
وتوطدت علاقة عسٌّه بالثلاثي عاصي ومنصور وفيروز. وقال في غير مقابلة: «أشهد أن لمنصور موهبة اكتشاف الكلمة الحلوة الكفيلة بأن تكون هيكل أغنية. وأشهد بأن لعاصي قدرة مذهلة على الخلق والإبداع والإنتاج نوعاً وكماً، وأنه، أي عاصي، كان يرافق صوت فيروز خطوة خطوة، وكان يساهم في صنع هذا الصوت مرحلة مرحلة».
في أواخر الأربعينات تعرف عاصي إلى الشاعر سعيد عقل. وكان واسطتهما إلى ذلك عبدالله بشارة الخوري، نجل الأخطل الصغير. وسرعان ما توطدت العلاقة بين الرحبانيين وسعيد عقل. وذات يوم رافق الشاعر عقل الفنان عاصي إلى منزل فيروز، حيث اكتشف بداية قصة الحب بينهما. وخلال عودتهما من زيارة فيروز سأل سعيد عقل عاصي: «ماذا تنتظر يا عاصي حتى تتزوجها؟». وهكذا كان. إذ لم يطل الانتظار، وتم الزواج في كانون الأول من عام 1955.
بدء معرفة عاصي لفيروز
إلا أن معرفة عاصي بفيروز إنما تعود إلى سنة 1950. وقد ذكّر عاصي باللقاء الأول بينهما في غير حديث صحافي، قال: «جاءني حليم الرومي قائلاً: أود يا عاصي أن تسمع صوت فتاة اكتشفتها قبل بضعة أشهر. فقلت له: لا مانع عندي. ويومها كنت لا أزال أرتدي الشورت. فتقمصت شخصية الملحن العظيم. ووضعت السيجارة على طرف شفتيّ، واستمعت إلى نهاد حداد وهي تغني «يا زهرة في خيالي» لفريد الأطرش. وأتبعتها بموال «يا ديرتي مالك علينا لوم» لأسمهان. فأعجبت بصوتها. وبدأ عهد جديد بيننا. وكانت أول أغنية لحنتها لها» «حبذا يا غروب». وكرَّت سبحة الأغاني... ومشينا طريقاً طويلة، تخللها بعض التعب، والكثير من المجد والشهرة والحب... وأشياء أخرى».
اهتمَّ الأخوان رحباني اهتماماً خاصاً بالفولكلور اللبناني. فأبدعا له نموذجاً خاصاً من الأغاني، هو النموذج الذي صار يحمل اسمهما واسم فيروز. وزَّعا الفولكلور توزيعاً حديثاً، واقتبسا وعرَّبا بعض الجميل من الأعمال الموسيقية الغربية. ثم اتجها إلى الموشحات. وزادا عليها بعضاً من أشعارهما. ولقيت تجربتهما نجاحاً باهراً. وقد شاركا، في تلك المرحلة بالذات، بتأسيس «عصبة الخمسة» اللبنانية. وكان شركاؤهما في «العصبة» كل من توفيق الباشا وزكي ناصيف وتوفيق سكر.
وقد تم استيحاء الاسم من «عصبة الخمسة» الروسية التي كانت تتألف من رمسكي كورساكوف وبلاكيريف وكوي ومسورسكي وبورودين. وكان هدف العصبة يرمي إلى إحداث تطوير في الموسيقى اللبنانية وفي الغناء اللبناني. وكان صبري الشريف يقف وراء تلك العصبة ويشجعها. كبرت الظاهرة الرحبانية، وتنوعت عناصر الإبداع فيها، وانتشرت في العالم العربي وفي العالم. وبلغ عدد المسرحيات التي ألفها الأخوان رحباني، شعراً وموسيقى، كانت فيروز المغنية الأساسية فيها، واحداً وعشرين مسرحية. وهي كانت مسرحيات نقدية لاذعة. ولم تشذ عن ذلك المسرحيات التاريخية منها.
وكثرت النقاشات حول الظاهرة الرحبانية في الوسط الفني، بين مرحِّب بها من دون نقد، وناقد لها مع الإقرار بأهميتها وبكونها ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الغناء والموسيقى وفي المسرح الغنائي في العالم العربي. وفي أي حال فإن المسرح الغنائي، كما ظهر في مسرح الرحابنة، هو رحباني بالكامل.. أي أنه يحمل اسم الأخوين رحباني بامتياز. ولا يقلل هذا من أهمية ما قام به آخرون في مهرجانات بعلبك من حفلات موسيقية وغنائية، لا سيما فرقة «الأنوار» التي كان يؤلِّف موسيقاها المؤلف الموسيقي وليد غلمية، الذي يشغل منذ عدة أعوام مركز رئيس الكونسرفتوار الوطني اللبناني، والذي يعود له الفضل في تشكيل الفرقة السيمفونية الأولى في لبنان.
0 تعليقات