كود اعلان

مساحة اعلانية احترافية

آخر المواضيع

كافكا والسّنواتُ الحاسمة

 


ترجمة: محمد الفحايم  |  17 مارس 2021  |  

قضى «راينر ستاش – Reiner Stach» ستَّ سنواتٍ من عُمْره لإنْجاز سيرة عن «فرانتس كافكا» (1883 – 1924)، وتأتّى له هذا بفضل الدَّعْم الماليّ لمطابع «فيشْر»، وكانت النّتيجةُ إصْدارَ كتابٍ هو الجزء الأوَّل من سيرة ستتألّف، فيما بعد، من ثلاثة أجزاء. عنوان هذا الجزء الثّاني الذي يتناوله هذا الحوار هو (السّنواتُ الحاسمة)، وقد صدر عام (2002)، ويتألّف من أكثر من (600) صفحة، تتناول سنوات ما بيْن( 1910) و(1915)، وهي السّنوات الخصبةُ التي كتب فيها الكاتب التشيكي رواياته: («القرار»، و«التّحوّل»، و«المفقود»، و«المُحاكمة»). أمّا الجزء الأوّل فعنوانه (سنواتُ الاِعتراف)، وصدر عام (2008)، ويرتبط بالسنوات: من (1883) إلى (1910)، وأمّا الجزء الثالث الذي ظهر عام (2014) فعنوانُه (سنواتُ الشَّباب)، ويتعلّق بالأعوام: من (1916) إلى (1924).

لم يُثِرْ كاتبٌ حديثٌ ما أثاره «فرانتس كافكا» من تعدُّد القراءات، واختلاف التّآويل. وكان كلّ تأويل أو قراءة يُسقط على الكاتب همومَه ومشاغلَه، ويرى فيه أفكاره الخاصّة به : فالسّورياليون قرؤوا «كافكا» من خلال الحُلْم واللاّشُعور والدُّعابة السّوداء، وفسَّر أصحابُ الفكر الدّينيّ كتاباته مُترسِّمين خُطى «ماكس برود – Max Brod»، فعدُّوها رُموزاً وأُمثولات (أليغوريا) وحِكَماً. أمّا أتباع المذهب الوجوديّ فوصلوه بالفيلسوف «كيركجارد»، وبنظريّات العبث، وحسبوه ذلك الشّخصَ الذي هجره الرّبُّ وتخلّى عنه، فأضحى وحيداً ومحْروماً من كلّ مدَدٍ أو عوْنٍ إنسانيٍّ. وسيُركّزُ مُشايِعو التّحليل النّفسيّ من «مارت روبير» إلى« دولوز» و«كاتاري» على مشكلته الأوديبية (عُقدة أوديب)، ورأى فيه آخرون ذلك الكاشفَ الألْمَعِيَّ عن فظائع القرن…أو ذلك الشخص المُصاب بنزعة مَرَضية في بُلوغ الكَمال.

إنّ الأبحاث البيوغرافيةَ الجديدة التي اعتمدت مصادرَ لم تكُن مُتاحةً من قبل، كالوثائق، والرّسائل، والمخطوطات…تَعُدُّ هذه القراءات مُتجاوزةً، وهذه التّآويل مُغْرِضَةً. ولا تُظهر «كافكا» بوصفه كاتباً ساخِراً، أو مُتديّناً، أو غامِضاً، بل بصفته كاتباً حيّاً، وديناميّاً، وعاشِقاً، ومُتمرّداً، ومُقاوِماً.

منذ وقت طويل يا «راينر سْتاش» وأنتم تُنذرون نفسكم لـ«كافكا».فمنذ (1987) كنتم قد نشرتم مقالاً يعْرِضُ نظْرتَه إلى الحُبّ وإلى العلاقات العاطفية. وبعد بقليل، اشتغلتُم على الأوراق التي تركتْها «فليس باور» بعد موتها في الولايات المتَّحدة، وهي واحدة من خطيباته، َتراسَل معها من (1912) حتى (1917). لقد قمتم بتنظيم معْرِضٍ في «نيويورك» انطلاقاً من هذه الأوراق، فماذا جَنَيْتُم منها لمعرفة شخصية «كافكا» ذاتِها؟

– لقد اكتشفتُ، بالفعل، في منزل ابن «فليس باور» في ضواحي «نيويورك»، الأوراقَ التي احتفظتْ بها بعد ما باعتْ رسائل «كافكا». ويُوجد بحوزته جزءٌ كبيرٌ من خزانة أُمّه. ولقد أُقيم هذا المعرضُ عام (1999). لمّا همَّتْ بمُغادرة ألمانيا، استطاعتْ أنْ تحْفظَ هذه الأوراقَ مع أمتعتها. و-بالطّبع- إنّ معظمَ هذه الأوراق يتعلّق بعائلتها. ولطالَما أطْلَعني ابنُها على الأحداث المؤلمة التي عاشتْها. ويكادُ «كافكا» لا يعرف شيئاً عن هذه الأحداث ما عدا بعضَ التّفاصيل. في حين أنّ هذا كلّه كان يحدثُ في فترة خُطوبته على «فليس». وعندما يحيط المرءُ عِلْماً بها فإنّه يقتنع أنّ ثمّةَ سوءَ فهمٍ كبيراً قد حصل في المراسلة التي جرت بين «كافكا» و«فليس».لقد ساءت أحوالُ «فليس» خلال فترة مُعيّنة، وخارتْ قُواها. وكان «كافكا» قد اقتنع بأنّه يتحمّل الخطأ في ما حدث، وفي الواقع، لم يكُن بمقدوره فعلُ شيءٍ ما. كانت إحدى أخوات «فليس» قد وضعتْ موْلوداً لقيطاً، وكان هذا الفعلُ مَجْلَبَةً للعار بالنّسبة إلى عائلة يهودية، فرأت العائلةُ أنّ من واجبها التّنكُّرُ لها. وكان أخوها، من ناحية أُخرى، قد حوَّل مبلَغاً من المال، مزَوِّداً حِسابَ مُشَغِّلِه، فكان عليه أن يهربَ حتّى لا يُودَعَ السِّجنَ، فهاجر إلى الولايات المتّحدة. و«فليس»، هي التي تحمَّلتْ، من الناحية المادِّيّة، هذين المُصابَيْن، إذ كان لا بُدّ لها أن تخْسِر مالَها الذي ادَّخرتْه، والذي كان، بمعنى ما، يمثِّل مهْرها، ورفضتْ أنْ تُخبر «كافكا» بهذا الأمر…وما كان فعلُها هذا ليُشكّل قاعدةً متينةً لإقامة روابط ثقةٍ، وههُنا تكمُن المُفارقةُ؛ عندما كانت «فليس» تطلُب من «كافكا» أن يتحلّى بالواقعيّة، ويتقبّل الواقعَ في نهاية المطاف، كانت تَكْتُمُ عنه هواجسَها الشّخصية. ولقد جرت العادةُ أنْ تُقرَأ مراسلتهما من منظور «كافكا»، إذْ إنّنا لا نتوفّر على رسائل «فليس». في الواقع، لا يُحسّ المرءُ في هذه المراسات إلاّ بمأساة «كافكا». لقد قرأتُها من زاوية أُخرى، آخذاً بعيْن الاِعتبار هذه الأحداثَ المُهمّة.

راينر ستاش – Reiner Stach

حين عثرتم على هذه الأوراق التي تركتْها «فليس باوْر»، كنتم قد بدأتم، من قبل، كتابةَ سيرةٍ عن «كافْكا»، وتوقّعْتُم إصْدارهاَ في ثلاثة أجزاء. وأصدرتم، أوّلاً، الجزءَ الثاني المتعلّق بالسنوات: من (1910) إلى (1915)، أيْ الفترة التي بلغ فيها «كافكا» سنّ الرُّشد…لأيّ سبب؟ لكن، لنسألْ، في البداية، عن سبب إصْدار سيرةٍ جديدةٍ عن «كافكا»؟

– لسببٍ بسيطٍ هو أننا نعْدَمُ، حتّى الآن، وجودَ قصّةٍ كاملةٍ عن حياة «كافكا»…لقد كتب النّاشرُ الرّائدُ كلاوْس فاكنْباخ عملاً جيّداً عن طفولة وشباب «كافكا»، لكنّها سيرةٌ تعود إلى العام (1958). ولقد كان له فضْلُ الاِعتماد على شهادات الأشخاص الذين رحلوا منذ أمد، ولم تصدُر أيّةُ دراسة من هذا القبيل باللّغة الألمانية، منذ (1958) إلى أيّامنا هذه. لقد وُجِدَتْ بعضُ السِّيَر باللّغة الإنجليزية، بَيْدَ أنّها ضعيفةٌ في رأيي، لأنّ المصادر في ذلك الوقت لم تكن مُتاحَةً، فكان أن يكتبَ المرْءُ عن كُتُبِ «كافكا»، أيسر مِنْ أن يشْرع في إنجاز بحوث بيوغرافية عنه. غير أنّ الوضْعَ تحسَّن في السّنوات الأخيرة، ليس بفضل المخطوطات التي أُتيح الاِطّلاعُ عليها، فحسب، ولقد اطّلعتُ عليها. واستطعتُ تقييمَ كتابات «كافكا» تقييماً دقيقاً في انبثاقاتها الأولى، وقوّة أفكاره الأولى، ثمّ قرأتُ، من خلال تصويباته، رغباته التي لم تتحقَّق، وتحوُّلات صوته. إنّ التّعامُل مع المخطوطات، واللُّجوءَ إليها، يُعَدُّ ضروريّاً بالنّسبة إلى كاتب السِّيرة. ومن ناحية أخرى، يعود الفضلُ لبعض الباحثين في كوننا نتوفّر على بعض الأُسُس التي يمكن الاِعتمادُ عليها للعَمَل في ظروف جيّدة. لقد اشتغل «أرتموت بندر» كثيراً على حياة «كافكا»، ويُعَدّ واحداً من العارفين به. إنّي أستفيد من هذه المُنجزات، وهو ما لم يُتَحْ لكُتّاب السّيرة في السنوات: من (1960) إلى (1970). وإنّي لمحظوظٌ، كذلك، لأنّنا أصبحنا نتوفّر، اليوم، على طبعة نقدية لآثار «كافكا» الأدبية، والتي كان البروفسور البريطاني «مالكوم. س. باسلي» أوّل من باشر العملَ عليها عند النّاشر «فيشر».

بدأتم، إذاً، هذه السّيرة عن «كافكا» بالجزء الثّاني، إنّكم تتناولون ما تُسمّونه (السّنوات الحاسِمة). لماذا لم تبدؤؤا بطفولة «كافكا» وشبابه؟

– ثمّة سببٌ جوهريٌّ لهذا الأمر؛ وهو أنّ أحد المصادر الأكثر أهمّيةً لرسْم سنوات شبابه، بدقّة، لا يزالُ بلوغُه مُتعذّراً، ويتعلّق هذا المصدرُ بالأوراق التي تركها «ماكس برود»، صديق «كافكا». وهذه المصادر أصبحت مِلكيةً خاصّة لوَرَثة «ماكس برود»، وليستْ مُوَثَّقَةً، ولا يُمكنُ مُراجعتُها حاليّاً. إنّها كَمٌّ هائلٌ جدّاً من الأوراق. لقد تراسل «ماكس برود» تراسُلاً مُنتظماً مع عدد كبير من المُثقّفين والكُتّاب، لامع «كافكا» فقط. وتُمثِّلُ هذه المُراسلةُ زُهاء خمْسة عشَر ألف رسالةٍ حتّى عشرين ألف رسالةٍ. وعلاوة على هذا، ترك «ماكس برود» مُذكّراته الشخصية، وتتضمّن تلك التي تعود إلى الفترة التي التقى فيها «كافكا»، وفيها، أيضاً، يوميّات تعْرِضُ لإقامة «كافكا» في المصَحَّة التي مات فيها. ومن المُحتمل أن تشْمَل ملاحظات «كافكا» نفسه، ولا يبْدو أنّ «كافكا» تَرَك وثائق تهُمُّ طفولتَه وشبابَه، فقد أتْلَفَ مُذكّراته المُتعلّقة بهذه السّنوات؛ ولهذا سيكون من العبث أن يشرع المرءُ في إنْجاز سيرته دون أن يتمّ التَّعرُّفُ إلى مخزون «ماكس برود».سأقوم، الآن، بعمليّة الجمع والتّحصيل لمدّة أربع سنوات بلا شكّ، للسنوات: من (1883) إلى (1914). وآملُ، في ضوء هذا الجزء الثاني الذي أصدرتُه للتّوّ، أن يمنحني ورثةُ «ماكس برود» المُوافقة على الاِطّلاع على أرشيفهم، بعد أن اقتنعوا بقيام أبحاثي على أساسٍ مكينٍ، لأنّي أُراهِن كثيراً على هذا الاِطّلاع.

مادُمتم قد ذكرتم «ماكس برود»، ماذا يُمكن للمرْء أن يقول، اليوم، بطريقة موضوعية ومُحايدة، عن الدّور الذي قام به في نشْر أعْمال «كافكا»؛ هذا الدّور الذي انتُقِد بشدّة، وبخاصّة من لدُن «ميلان كونديرا» في كتابه «الوصايا المغْدورة»؟.

– ينبغي، في اعتقادي، أن يكون الموقفُ من «ماكس برود» موضوعياً، لا موقفاً سِجالياً قبْليّاً. لقد أنقذ مخطوطات «كافكا» على غير إرادته، بحيث إنّ «كافكا» كان قد أوْصى بحرْقِها، فلوْلا صنيعُه هذا لما كُنّا سنتوفّر، اليوم، على رواية «المُحاكمة» لا على صفحات عديدة من «المُذكّرات».

ولقد بذل جهْداً، فيما بعد، في منْع إتْلاف النّازيّين لهذه المخطوطات. ولقد كان، من جهة أخرى، مهْموماً للغاية بنشْر أعمال «كافكا» حتّى وهو على قيْد الحياة، وبالعُثور له على مجلاّت ودور نشْرٍ. ولقد جابه بعد موت «كافكا» بعضَ الصُّعوبات أمام رواياته: (المفقود – أمريكا- المُحاكمة- القصْر)، لأنّها، في الواقع، غيرُ مُكتملة. فمن أين للمرء، في مثل هذه الشّروط، أن ينشُر أعمالَ كاتبٍ، لا يكاد يكون معروفاً، وزِدْ على ذلك أنّه لم يكن قد ترك سوى بعضِ الشَّذرات؟ فلهذا السّبب أخفى، في البداية، الطّابعَ الشَّذْرِيَّ لرواية «المُحاكمة». وعندما طبعها، للمرّة الأولى، لم يذكُرْ أنّ بعض الفصول كانت ناقصةً، وكان يستحيلُ إدْراكُ هذه الثّغرات، ويُمكنُنا، اليوم، أن ننتقد، بالطّبع، هذه الطّريقة التي كانت تبدو حكيمةً في ذلك الوقت، وكان الهدف منها، في المقام الأوّل، هو التّعريفَ بآثار «كافكا». فمَنْ كان سيقرؤها لو أنّه كان قدّمها بوصفها سلسلةً من الشَّذرات؟…ولقد صرّح «ماكس برود» نفسُه،عام (1930)، بعد أن فات الأوان، بأنّ ما قام به ليس طبعة نهائيّةً، بل ينبغي التّفكيرُ، فيما بعد، في طبعة نقدية. إنّه كان يُقِرُّ بهذا الأمر.

وأرى أنّ «ماكس برود» كان مُحِقّاً من خلال هذه المظاهر جميعِها. إنّ الشيء الذي يُلامُ عليه ويجدُر بنا أن ننتقده هو عندما تدخَّلَ مباشرةً في المخطوطات، بغاية طبْع الرّسائل والمذكّرات. لقد رأى ألّا تُذْكَر بعضُ الأسماء التي ذكرها «كافكا»؛ لكون أصحابها ما يزالون على قيْد الحياة، وقد يُسيءُ هذا الذِّكْرُ إليهم، ولم يكتفِ بهذه الرّقابة، بل حذف جميعَ المقاطع التي تحدّثتْ عنه حديثاً سَلْبياً.

ثمّ هناك التأويلُ الذي أعطاه لأعمال «كافكا» الأدبية، لقد سعى منذ الثلاثينيات إلى توجيه تلقّي النّقد الأدبيّ لهذه الآثار الأدبية. لقد قال، وأعاد القول إن «كافكا» كان كاتباً ذا منابعَ دينيّةٍ، على نحو خاصّ، بل قدَّمَه كما لو كان قدّيساً في حياته الخاصّة. وعندي، يجب القطْعُ، بصفة نهائية، مع هذه الصّورة، لأنّها خاطئةٌ تمام الخطأ، لقد قام «ماكس برود» بتأويل «كافكا» تأويلاً فاسداً خلال زمن طويل، فـ«كافكا» لم يكُن كاتباً مُتديّناً، إنّما كان كاتباً حديثاً يتوسّل طرائقَ أدبيّةً حديثةً، وقد اهتمَّ، كذلك، بالطبع، بقضايا دينيّة، إلاّ أنّه لم يكُنْ « مُتديّناً» بالمعنى الذي يمنحُه «ماكس برود» لهذه الكلمة، عندما يُحيلُ على اليهودية والصُّهيونية.

ألم يكن «ماكس برود» يُقحم نفسَه في المجال الأدبيّ لـ«كافكا»، إقحاماً مُفرطاً؟، فهو الذي كشف عن «كافكا»، بل قرَّظه في أثناء حياته. فهل كان لـ«كافكا» ردودُ أفْعالٍ إزاء هذا التّعظيم؟

– لم يكن هذا التّقريظُ يروق لـ«كافكا»، وكانت السُّخرية، غالباً، هي سلاحَه لمجابهته. وكان سيُجازف بصداقته مع «ماكس برود»، لو كان ردُّه عنيفاً. وبالنّظر إلى قلّة عدد أصدقائه، كان يشعُر بأنّ احتمال حُدوث قطيعة سيشكّل خطراً عليه. وكان الأشخاصُ الذين يستأهلون، حقّاً، أن يبوح لهم بمكنون نفسه، نادرين. كان مقتنعاً بأنّ «ماكس برود» يُبالغ، ولم يكن يحمل تصرُّفَه على محمل الجدّ. ومن ناحية أخرى، لم يكن هو وحده الذي تصرّف معه «ماكس» بهذا التصرّف، بل كان يبعث برسائل إلى مجلاّت ينْعتُ فيها معارفه بـ«العباقرة»، سواء أ كانوا كُتّاباً من التشيك أم كانوا من الألمان. وكان يُلحُّ على أن يُنشَر فيها نتاجُهُم، وكان هذا الأمر يُثير ضحكَ «كافكا». لكن حين يبْدو له أنّه تعدّى الحُدود فإنّه كان يُبدي عدمَ رضاه. كتب في رسالة إلى «فليس باور»، إنّه لا يسَعُه إلاّ أن يحتجب عن الأنظار بعد مدائح «ماكس برود» له، ويُضيف «إن أسوأ ما في الأمر هو أنْ يتحدّث «ماكس برود» عن آثاري الأدبية، أقلّ ممّا يتحدّث عن شخصيَّتي»، ونلحظ من نبْرة الرّسالة أنّه كان مُنزعجاً.

 

لنَعُدْ إلى سيرتكم عن «كافكا» : لا شكّ في أنّ النّهج الذي سرتُم عليه سيبلُغ ما يُناهز (2000) صفحة. لماذا هذا العمل الضخم؟

– العلّةُ في المنهج الذي ارتضيتُه؛ فعلى سبيل المثال، غالباً ما كان قُرّاءُ رسائل «كافكا» إلى «فليس باور» ينقادون إلى استنتاجٍ حاصلُه أنّهم إزاء شخص عُصابيّ. وفي الواقع، لماذا يُنَمِّي «كافكا» علاقةً ظلّت ترسُّلِيةً، في الأساس؟ وبما أنّ «فليس» كانت تقطُن في «برلين»، وهو يقيم في «براغ»، فلماذا لم يكن يُخابرها في الهاتف؟؛ إذْ كان بمقدور الصّوت أن يُقيم بينهما اتّصالاً أكثر مادِّيةً. والحال أنّ «كافكا» إذا كان يتجنّب المُهاتفةَ، فإنّ هذا الأمر لم يكن راجعاً إلى تصرُّف عُصابيٍّ، وإنّما ينبغي أن نعرف ما كان يعنيه التّحدُّثُ بواسطة الهاتف في «براغ»، عام (1912)، حيث يقتضي هذا الأمرُ الذّهابَ إلى محطّة البريد المركزية، ثم الإخبار بالقُدوم، ثمّ المُكوث في قاعة الاِنتظار لمدّة ثلاثين، أو أربعين دقيقة، وبعد ذلك يُمْنَحُ المرءُ مَخْدَعاً لا يتعدّى وقتُ المُكالمة فيه ثلاثَ دقائق، على الأكثر. إنّنا حين نكون على دراية بهذه الأمور فإنّ «كافكا» يبدو لنا واضحاً كلّ الوضوح، ونُدْرِك أنّه كان يُؤْثِر كتابةَ رسائلَ، بشكل هادئ، إلى «فليس»… وهاك مثالاً آخر على الشُّهور الأخيرة من حياته : إنّ سيرةً عاديّة ستتقيّد بالوقائع؛ إذ ستكشف عن أعْراض مرضه، وتشخيصات الأطبّاء له، والأدوية الموصوفة. والحال أنّ الوثائق ذات الصّلة بهذه الأحداث معروفةٌ منذ عشرين عاماً، وقِسْ على ذلك إقامات «كافكا» السّابقة في المصحّ. لكن، عندما نواجه الوقائع، ونُواجهها وحدها، فهل نحن، مع ذلك، في مستوى الموقف؟

لكي نفهم ما جرى، لا بُدّ أن نعرف ما كانت عليه كفاءةُ الأطبّاء، وما إذا كان أسلوبُ العلاج المُتَّبع هو الأفضل، وإذا ما كان «كافكا» واعياً بخطورة مرضه أم لم يكن واعياً؛ وهو ما يستوجب، فضلاً عن هذا، البحثَ عن الكيفيّة التي كان السُّلُّ يُعالَجُ بها في ذلك الوقت، وعن الدّور الذي يُمكن للمال أن يلعبه في طريقة العِلاج. هل كان بإمكان «كافكا» أن يظلّ على قيْد الحياة؟ وهل استشْعر المسؤولية في أن يكون المرض قدَرَه، ومن نصيبه؟

وللإحاطة بجميع هذه القضايا، يتطلّب الأمر من كاتب السّيرة، أن يكون لديه الوقتُ والمكانُ. إنّ هدفي هو أنْ أُتيحَ للقُرّاء معرفةَ الخيارات التي كانت مُتاحةً لـ«كافكا». ومن هنا يُمكن أن ينبعث تعاطُفُهم مع وضعه، ومع حالته الذهنية. ولولا هذا لاسْتحال فهْمُ ما إذا كانت رُدودُ أفعالِه طبيعيّةً أم غير طبيعية، وإذا ما كانت عاديّة أم غير عاديّة.

لكنّكم تُشيرون، في هذا الجزء الثّاني من سيرتكم عن «كافكا» إلى أنّه يُشَيِّد صورةً مثاليةً عن «فليس» من خلال الكتابة وبواسطة الرّسائل، مُفَضِّلاً تجنُّبَ الواقع…

– نعم. إنّه يميلُ إلى إخراج نفسه من الواقع، وإلى تكوين صُوَرٍ مثاليةٍ، أو يُظْهِرُها بمظهر مِثاليٍّ. وهذه الظّاهرةُ أنموذجيةٌ عنده. لكن، لا يُمكن أن نتّخذ من امتناعه عن المُهاتفة دليلاً على إثْبات عُصابه. فهذه حُجّةٌ لا يُمكن قَبولُها. إنّ ما أبتغي قولَه هو ضرورة معرفة الواقع الموضوعيّ للفترة التاريخيّة، وهي فترةٌ أساسيةٌ عنْدي، قبل النّظر في الحياة النفسية لـ«كافكا». وهاكم مثلاً آخر: لطالما قيل، وأُعيد القولُ في شأن موضوع الحرب العالمية الأولى، إنّ «كافكا» كان قد تبنّى سُلوكاً مُدَمِّراً. في آخر المطاف، كان كلُّ شيء على ما يُرام، بالنسبة إليه، أليس كذلك، مادام لم يتجنّد؟. يكمن المشكلُ في أنّ الواقعَ الموضوعيَّ كان مختلفاً تماماً. لقد عانى «كافكا» كثيراً في أثناء الحرب، بحيث زادتْ أوْقاتُ عملِه في المكتب؛ بسبب قلّة العاملين، فكان عليه أن يعمَل مرّتَيْن، وكان مُنْهَكاً كلّ الاِنْهاك، وفوق ذلك، انقطعتْ صِلاتُه بأصدقائه الذين ذهبوا جميعهم، تقريباً، إلى جبهة القتال، وكان أزواج أخواته قد جُنِّدوا أيضاً. وكان من نتائج هذه الوضعية أنْ عاش في عُزلة رهيبةٍ.

في موضوع هذا العُصاب المزْعومِ، لطالَما ذُكِرَتْ صورةُ الأبِ لتفسير صُعوبات «كافكا» النّفسية…فغالباً ما أشار إلى أنّ أباه يسْتبِدُّ به، وكان من عادته أن يُذِلَّه، ويبْدو أنّ الأبَ ما كان يحتمل علاقةَ ابنه مع سَواد الشّعب، وبوجه خاصٍّ مع اليهود الفُقراء المُنحدرين من أوربا الشّرقية، ومع عالَمهم الذي لم يكُن عالَمَه، ولا عالَمَ يهود «براغ»؛ أي لغة اليديش، ومسرح اليديش…ما رأيكم في هذا؟

– سأُخصِّصُ، في الجزء الأوّل من هذه السّيرة، عدَّةَ فُصول عن عائلة «كافكا»، وعن أُصوله، ونمط عيشه، وسيكون فيه، أيضاً، فصْلٌ أساسٌ عن «ماكس برود»؛ لشرح الدّور الذي قام به إزاء صعوبات «كافكا» النّفسية، على نحو خاصّ. لقد كان أبو «كافكا» وجْهاً حاضِراً، بقُوّة، وجْهاً بطريركيّاً (أَبَوْيّاً)، يتحدّث بصوت قويٍّ وسُلْطَويٍّ، غير أنّ مِزاجَه لم يكُن عنيفاً. ولم يكن يهودياً مُؤمناً، بل كان راضياً عن كونه مُتحرّراً من نزعة دينيّة انْغمر فيها أيّام شبابه في أقصى جنوب بوهيمياً، ولم يكن يختلفُ إلى الكنيس إلاّ أيّام العيد، ورفض الصِّلةَ باليهود الأرثودوكس، لأنّ ديانتَهم كانت تُذَكِّرُه بالذّكْرى التي احتفظ بها عن اليهود البُؤساء، كما كان يعْتزُّ بمُروقه عنها، وبما شهِدَه من رُقِيٍّ اجتْماعيٍّ. وكان يسوْءُه أنْ يكون لابنه أصدقاءُ كهذا المُمثّل الكوميدي حافي القدميْن الذي كان يُدْعَى «جيشْتْشاك لوي».

فرانتس كافكا مع خطيبته فليس

وماذا عن علاقة «كافكا»، بالمرأة، والتي كانت موضوعَ الكثير من التّكهُّنات؟

– هنا ينبغي العوْدةُ، أيضاً، إلى تلك الفترة، واستحْضار الطّريقة التي كانت عليها العلاقاتُ بين الرّجال والنّساء عام (1914)، في المجتمع البورجوازيّ للنّمسا المجرية، بحيث كانت تُصَنَّفُ النّساءُ إلى ثلاثة أصْناف : الأُمّ، الزّوجة، المومِس، وهي أصْنافٌ كانت تُجسّد الأنماطَ السّائدةَ التي كانت تفرض نفسَها.

كانت الأُمُّ تُقْصي الإيروسية؛ فإمّا الأُمُّ، وإمّا الإيروسية، أمّا الإثْنان فلا يجتمعان. لم يكن «كافكا» يرغب في امرأة تقوم بدور الأُمّ. كانت له، أُمٌّ بالفعل، في المنزل، وكان يعتبر أنّ هذه الأُمّ كانت تُحبّه، بالتّأكيد، لكنّها لم تكن تفهمه، فالأُمّ لا يُمكنُها أن تكون مثالَه عن المرأة. أمّا مع الزّوجة، فإنّ «كافكا» لم يكُن قادِراً على إقامة روابط دائمة معها؛ لأنّه كان يتوجَّسُ من انْعدام وجود الأواصر العميقة. نهضت «فليس باور» بدور الزّوجة، وهو ما شكّل خيبة أمَلٍ عنده. وفي الختام، كان يَهابُ النّساءَ اللّواتي يُبْدين الأناقةَ، إذ كان ثمّة خَواءٌ يثْوي خلف هذه الأناقة، وثمّة لعُبةٌ كانت تُقلقُه. فما نوع المرأة الذي كان «كافكا» يأْملُ في العُثور عليها، في ظلّ هذه الشّروط؟ كان يرغب في المرأة المُتحرّرة، وهذا النّمطُ من النّساء موْجودٌ، غير أنّه نادِرٌ. لقد عثر، مُؤخّراً، على إحداهنّ، تُدْعى «ميلينا»، وكان شديدَ الإعجاب بها، ولم تكن النّساءُ اللّائي كان يتخيّل العيشَ برفقتهنّ، في إطار علاقة شريك بشريكة، موجودات بكثرة، ولا يرجع هذا إلى كونه عُصابياً، بل لأنّه لم يكن يُطيق التمثيلات النّسائية التي كانت سائدة في تلك الفترة، بحيث كان يُثْني على النّساء اللّواتي لا يخْضعْن لهذه التّمثيلات، واللاّئي كُنّ يُجسِّدْن ذواتَهُنّ بأصالة، وبصورة حقيقيّة. وقد حالفه الحظُّ، في آخر عُمره، عندما التقى بالشّابّة «دورا دْيامان»…

إنّ المرء، إذْ يُحاط عْلماً بكلّ هذه الأُمور، لن يُجازْف بالحديث عن قلق «كافكا»، هذا القلق الذي كان، بالتّأكيد، باتولوجيّاً (مَرَضِيّاً) في جُزء منه. ومِمّا لا جِدال فيه أنّه كان يشعُرُ بخَشْية إزاء السّلوك الجنسيّ. كان يَهابُ ممارسة هذا السُّلوك بوصفه واجِباً، لا بوصفه ناجِماً عن رغبة إيروسية حقيقيةٍ. ولم يتردّدْ في إطْلاع «فليس باوْر» على خوفه من أن لا يرغب فيها بما فيه الكفاية، بيْد أنّه لم يكن، إطلاقاً، مُصاباً بالعَجْز الجِنْسِيِّ. إنّ خجَلَه هو الذي كان يجعل من تصرُّفُه مع النّساء تصرُّفاً إشْكاليّاً.

في الجزء الثّاني من السّيرة، تذكُرون «كْريت بْلُوخ»، وهي صديقة «فليس باوْر»، وتُبيّنون -بشكل خاصّ- أنّ العلاقة العاطفيّة التي أقامها «كافكا» معها، مثلما زَعَم البعضُ، ليست إلاّ وهْماً، فلو كانت «كْريت بْلوخ» قد وَضَعَتْ طفْلاً، بالفعل، عام (1914) أو (1915)، كما كان «كافكا» أباه. إنّ فرضية هذه الأُبُوّة التي أكَّدَها «ماكس برود» بنفسه، في النّهاية، كانت تسْتَنِد إلى قراءة سيّئة لإحْدى الرّسائل…

– أضحى بمقدورنا، اليوم، أنْ نرى على (الميكروفيلم) مخطوطات الرّسائل التي كان «كافكا» يبعثها إلى «كُريت بْلوخ». ففي الوقت الذي كان يكتب فيه رسائلَ إلى «فليس باوْر»، كان يكتب فيه رسائلَ إلى «كْريت بْلوخ». لقد ساهم هذا التّبادلُ للرّسائل في صَرْمِ حبْل العلاقة بين «كافكا» و«فليس». في الواقع، كانت «كْريت بْلوخ» تكشِف لـ«فليس» عن الرّسائل التي تتلقّاها، وكان «كافكا» يُعبِّرُ، في البعض منها، عن تحفُّظاته من الزَّواج، ومن سوء حظّه أنّها لم تكُن تكْتفِي بانْتقاء الرّسائل التي كانت تُظْهِرُها لها، فقط، بل كانت تجْتزِئ منها، أحياناً، بعض المقاطع. وبناءً على هذه الاِقْتِطاعات، واسْتناداً، كذلك، إلى الجُمَل التي كانت تُسطّرُ عليها، يُمكنُنا أن نستنْتج منها التّأثير الذي كانت تترقَّبُه. لقد كانت دسَّاسَة. وفيما بعد، طلبت الصَّفْح من «كافكا» بسبب دورها في فسْخ الخُطوبة. لقد أدْرك «كافكا» أنّه لا يُمكن أن يثِق بها، ولهذا السّبب توقّف عن التّراسُل معها. ومن ناحية أُخرى، وكما علِمْتُ من ابْن «فليس باوْر»، إنّ التّراسُل بين المرأتَيْن، دام حتّى الثّلاثينيّات، إلى بداية هجرة «فليس باور» إلى الولايات المتَّحدة. أمّا «كريت بْلوخ» فقد هاجرت إلى إيطاليا، ثم هُجِّرَتْ، فيما بعد، إلى «أوشفيتز».وقد تكون قضتْ نحبَها هناك؛ بحسب بعض المعلومات الجديدة. وكان لها،بالفعل، طفلٌ توفِّي في سنّ السّابعة، عام (1921)، في ميونيخ. ومازلْنا نجهل مَنْ هو أبوه. ومن الثّابت، اليوم، أنّ «كافكا» لم يكن أباه. ينبُع سوءُ الفهم من رسالة بعثتْ بها «كريت بْلوخ» في «أبريل»، (1940)، إلى صديق لها هو المؤلِّف الموسيقيّ «فولفغانغ. أ. شُوكن»، تتحدّث فيها عن عشيقها السّابق الذي اضطُرّتْ إلى هجْرِه في أثناء الحرب العالمية الأولى، والذي رزح، فيما بعد، تحت وطأة المرض. لقد ظنّ «شوكن» أنّ الأمر كان يتعلّق بـ«كافكا»، وعندما كشف لـ«ماكس برود» عن الرّسالة، بعد مرور ثمانية أعوام، سيقتنع هذا الأخير بفحواها. لا تكشف «كريت بلوخ» عن أيّ اسْمٍ في هذه الرّسالة الشهيرة، وإنّما تُبيِّن أنّ والدَ ابْنها قد مات بعيداً عنها، (مات في بلده الأصليّ)، والحال أنّ «كافكا» مات بالقرب من فيينّا، وليس في بلده الأصليّ «تشيكوسلوفاكيا». وبالإضافة إلى هذا، توجد بطاقةٌ بعث بها «كافكا» إلى «فليس»، في نهاية أغسطس، (1916)، يقول فيها إنّه يتفهّم «معاناة» «كريت بلوخ»، ولا شكّ في أنّ ذلك إشارة إلى وضعها : فتاة أُمّ. ولو كان «كافكا» هو والدَ الطّفل، لكان قد أبان عن استخفاف ليس من ديْدَنِه.

تُلمّحون، دائماً، في كتابكم، إلى أنّ أعمالَ «كافكا» الأدبية هي، في جانب كبير منها، انعكاساتٌ لصراعاته النّفسية الذّاتية. في ظل هذه الشّروط، هل يُمكن أن تُؤثِّر هذه السّيرةُ الجديدةُ في طريقة قراءتها، أو إعادة قراءتها؟

– أنا كاتبُ سيرةٍ، وليس هدفي تأويلُ آثار «كافكا» الأدبية، إنّما أسعى، فقط، انطلاقاً من تحليل ذاتيَّته، إلى اسْتنْباط ما يُمكن أن يُسْتَشَفَّ من مقاصدِه. فعلى سبيل المثال، وفي شأن روايته «المفقود»، أنا أقتصر على جمْع العناصر التي تسمح بإنْشاء فرضيةٍ عن المعنى الذي يُمكنُ أنْ يمْنحه للمشْهد الختاميّ لهذه الرّواية. لنفترضْ أنّه أَتْلَفَ وصفَه لـ«مسرح أوكلاهوما»، وهو الفصل الأخير، فإنّ القُرّاء سيكونون عاجزين، بالفعل، عن أن يتخيّلوا، من تلقاء أنفسهم، مثل هذا الاِسنتاج! إنّها المرّةُ الأولى والوحيدة التي لم يُثبِّطْ فيها آمالَ بطلِه، ولكنّها المرّةُ الأولى التي حقّقها فيها…فما سبب ذلك؟

إنّ «ماكس برود» لا يُقدّم لنا الكثيرَ من الوُضوح، فقد زوَّر، في بادئ الأمر، عُنوان هذا الفصل، كما يُشير في العنوان الذي يمنحه، إلى أنّ الحدث يجري في مسرح «للطّبيعة»، بينما لا يُوجد شيءٌ من هذا القبيل في المخطوط. ومن ناحية أُخرى، إنّه يحمل القارئَ، في مُلحقه للطّبعة الأصلية للرّواية، عام (1927)، على الأخذ بتأويل مُعيَّن. لقد زعم، مُستفيداً من أسرار «كافكا»، أنّ رواية المفقود كان يتعيّن عليها أن تنتهي بتصالح عامّ للبطل مع الحياة المِهنية، ومع موطنه الأصليّ، ومع عائلته…

ومن المُؤَكَّد أنّ هذا الفصلَ لا يمُتُّ بصلة لِما تمّ وصفُه في الرواية، من قبلُ، بل يُعَدُّ نقيضاً له، إذ لا يتمّ فيه تداوُلُ أيّ مالٍ. فإمّا أنّ مسرحَ «أوكلاهوما» هذا هو حُلْمُ شخص يُحْتَضَر، وإمّا أنّ البطلَ، بعد تحطُّم آمالِه في مجتمع أمريكيّ، حيث الإنسان ذئبٌ يُضمر الشَّرَّ لأخيه الإنسان، يدخل الجنّة، جنّته «هو». لقد وضع «كافكا» كُلَّ شيءٍ هناك، لرسم الخُطوط العريضة لعالَم مُضّاد، بواسطة العلامات ذاتها للتَّصوُّر المسيحيّ لليوم الآخِر. إنّه يمزح، وينسُج خُرافاتٍ، ويُقيم ما يُشبه مُجتمعاً مثالياً…فبدلاً من المُصالحة العامّة، يقترح هذا الاِستنتاج مخرجاً ساخراً لكلّ ما انتهى بطله إلى التحرُّر منه؛ وهو لعنةُ والديه، والتّعذيب الذي يُمارسُه الرُّفقاءُ الذين التقى بهم، وقُوّة المال…إنّ أعمالاً أدبية أخرى أغْرَتْ كاتبَ السّيرة الذي سعيتُ إلى أن أكونه، نحو المُحاكمة، ومُستوطنة العِقاب. يكتبُ «كافكا» النّصيْن الرّوائييْن في الوقت نفسه، والحال أنّ العُنفَ في المُحاكمة يظلّ تجريديّاً ما عدا الصّفحات الأخيرة منه، بينما يسيلُ الدّم في مُستوطنة العِقاب التي يسودُها عُنْفٌ جسديٌّ هائلٌ؛ لهذا تساءلتُ عن سبب كتابةِ «كافكا»، في الوقت ذاته، لنصوص تختلف اختلافاً شديداً من ناحية الشّكل. يلاحظ المرءُ، عندما يقرأ مذكِّرات «كافكا»، أنّ صُورَ العُنْف والتّعذيب تُعذّبُه. إنّي أُخاطِر حينما أنْقادُ إلى تأويل لا يستند إلى الأعمال الأدبيّة بحصر المعنى، بل يتمركز داخل منظورِ المُؤلِّف، في النّاحية التي تُحفِّزُه على الكتابة. إنّي أجْلو الفكرةَ التي كان يرغبُ في اجتنابها في رواية المُحاكمة، وتتعلَّق بالدَّم، والمازوشية، والعُنف، واقتضت الرّوايةُ أن تظلّ تجريديةً، أمّا مُستوطنةُ العِقاب فتُوازيها.

هل بحثَ عن وصفات عند الكُتّاب، أم في الكُتب التي يقرؤُها؟

– لم يبحث عنها عند الكُتّاب المُعاصرين، بالتّأكيد. لقد قلَّ اهتمامُه بالحركة التّعبيرية، فإنّ كُتّابَه المُفضّلين كانوا من الكلاسيّين. تأثّر، في شبابه، بـ«نيتشه»، و«شوبنهاور»، ثمّ استرعى إعجابَه كثيراً «غوته»، و«دوستويفسْكي»؛ إذ كان مُعجَباً بالطّاقة التي كانت لديهم، إذ لم يكن يمضي يومٌ لا يكتبون فيه، وذلك بالرُّغم من الظّروف الصّعبة، وكان هو الآخر، بالمقابل، يعيش فترات يكاد لا يستطيع أن يخُطَّ فيها حرفاً واحداً على الورَق. وفي ردود أفعاله، يبدو أنّه كان مُتأثّراً بشخصية هؤلاء الكُتّاب أكثر من تأثُّره بوسائلهم الجمالية، وهذا الأمرُ ينطبق، كذلك، على قراءاته برُمّتها. لقد طالع العديدَ من كُتُب السّيرة، والسّيرة الذّاتية، ليست لكُتّاب، في المقام الأوّل، بل لرجالات السّياسة وأرباب الصّناعة. وما كان يَسْحَرُه هو كيف كان شخصٌ ما يعثُرُ على الطّاقة الضّرورية لكي يُجاهِد، طيلةَ حياته، في سبيل تحقيق الفكرة التي كانت تستحوذ عليه. على هذا النّحو، اهتمّ بـ«نابليون»؛ ليس لأسباب تاريخية أو سياسية، بل اهتمّ فقط بطريقته في التّخطيط لفعلٍ ما، من دون أن يزوغ عن مقاصده. لقد سعى، على الدّوام، إلى فهم منْبَع هذه القُوّة التي تدفع بالأشخاص إلى اتّخاذ قراراتٍ، وإلى المُخاطرة بحياتهم في سبيلها، وقد كان هذا، بالنسبة إليه، أمْراً يعجز عن القيام به. وهذا ما يُميّزه عن «ماكس برود» الذي كان يقتصر في قراءاته على الأدب، أمّا «كافكا»، فكان يهتمّ بالأشخاص مهما كان تنوُّعُهم. إنّ ما كان يبحث عنه هو فنّ العيْش، لا فنَّ الكتابة.

ومع ذلك، هو يمتلك تقنياتٍ أدبيةً، له فكرةٌ عمّا يُريده في الأدب، ويعرف كيف يُوَفَّقُ إليه…

– يقوم عمَلُ «كافكا»، إلى حدّ كبير، على تقنية عفوية، لا على تأمُّل واعٍ، بصفة تامّة، إذ لم يكن مُنظِّراً. كان غالباً ما يشرع في كتابة نصٍّ سرديّ وهو لا يدْري إلى أين يسير. كان ينطلق من فكرة، ولا يضع تصميماً للبناء. لم يكن يعرف في «رواية القصر» إلى أين ستنتهي الرّوايةُ. لكن من المُحقَّق أنّ ما كان يُعَوِّلُ عليه هو الرّغبة في بلوغ نتيجة، وليس عمَل الكتابة أو عملية إنجازها؛ وهذا ما تُبرهِن عليه الوثائق جميعُها، وكانت نيّتُه هي إكْمالَ الرّوايات التي بدأها. ينبغي التّخلُّصُ من الأسطورة القائلة (باسم تصوُّرٍ رومانسيٍّ زائفٍ)، إنّه كان سيُؤْثِرُ الفشلَ من النّاحية الجمالية، وهذا يقتضي، بالضّرورة، أن تكون الكتابةُ الشَّذْرِيةُ في الأدب هي النّتيجة لهذا التّصّوُّر، بل العكس هو الصّحيح : كان يبحث عن تأليف مُغْلَقٍ على نفسه، يمكن أن يتحقّق فيه الاِكتمالُ. لقد كان تصوُّرُه للعمل الأدبيّ تصوُّراً عن نُمُوٍّ عُضْوِيٍّ.

«كافكا» الذي أُعْجِب كثيراً بالشخصيات القويّة، بينما كان هو ضعيفاً، ألَمْ يُقرّرْ مُغادرة «بْراغ» في سبتمبر/ أيلول، (1923)، ليكون، أخيراً، في مستوى النّماذج التي يقْتَدي بها؟ لقد التحق، بالطّبع،بالرّفيقة الجديدة التي وجدها في «برلين». لكن، ألم يكُن كذلك واعِياً، بصفته كاتباً باللّغة الألمانية،بأنّه أضْحى مُبْعَداً من الجمهورية التشيكوسلوفاكية الجديدة المُنبثقة عن هزيمة النّمسا المجريّة عام (1918). تقريباً، كلُّ أصدقائه، في ذلك الوقت، غادروا «براغ»،أو غادروها منذ فترة،ما خلا «ماكس برود»…

– لقد كان موقفُ «ماكس برود» خاصّاً، إذ كانت له، في دولة «تشيكوسلوفاكيا»، الجديدة مُهٍمَّةٌ سياسيةٌ يقوم بها، بوصفه كان مُمثِّلاً للحركة الصهيونية، فلم يكن يعنيه، بتاتاً، أن يُغادر «براغ» في مرحلة العشرينيات. وكان الأمرُ مُختلِفاً بالنّسبة إلى «كافكا» الذي تعرَّف إلى فتاة يهودية من أوربا الشرقية، كانت تُقيم في «برلين»، وكان يودُّ العيشَ معها، إذ كانت المرأةَ الوحيدة التي لم يكن يشعُر بأيِّ قلقٍ وهو يعيش برفقتها، ولا ريْب في أنّ هذا هو ما حثَّه على الذّهاب. وثمّة سببٌ آخرُ، هو أنّ «براغ» تغيّرت كثيراً، فلم تعُد كما كانت قبل (1914)، وكانت الجمهورية التشيكوسلوفاكية عالَماً يختلف عن بيئة طفولته. كما كان المُناخُ السيّاسيُّ مُتوتِّراً بسبب العداء الذي يُكِنُّه التشيك للألْمان، بالإضافة إلى العداء المألوف للسّاميّة الذي يحمله التْشيك والألمان على السّواء، ولم تكن الظّروفُ سانحةً للكُتّاب الألمان، فالمجتمع تمّ تشْييكُه (إضفاء الطّابع التشيكي عليه)، وفُرِضَت اللُّغةُ التشيكيةُ. لقد غدت الحياةُ الثقافيةُ، الآن، بصُحُفها ومسارحها، في أيدي التشيك، ولم يخْلُ هذا الأمر من عُدوانية؛ جرّاء الاِضطهاد الطّويل الذي عانى منه التشيك من قِبَل الألمان، علاوةً على أنّ «براغ»، بسبب الحرب، أصبحت مدينة بائسة وقذرةً، تنْعدِم فيها وسائلُ التّدفئة. كانت «براغ» مدينة تشهد تدهوراً شاملاً، وكانت «برلينُ» مدينةً مُفضّلَةً يُسْعى فيها إلى بداية حياة جديدة. لم تكن عائلةُ «كافكا» تستطيعُ تركَ «براغ» التي كانت قد استقرّت فيها، وزاولت التّجارةَ بها، وامتلكت الشُّقَقَ، وكانت أسرتُه تملك فيها بنايةً للكِراء، ويتعذّرُ عليها أن تتخلّى عن كلّ هذا، بيْد أنّ الأمر الذي يبعث على المأساة هو وجود «كافكا»، في «برلين» في فترة اتّسمت بالبؤس، وبالتّضخُّم الماليّ، فعاش وضعاً مادّياً أزْرى به.

ألم تتغيّر، شيئاً فشيئاً، الصّورةُ التي كانت لكم عن «كافكا» في بداية أبحاثكم؟

– عندما بدأت، في الثمانينيات، كنت -بطبيعة الحال- مُتأثِّراً بالجانب الباتولوجي (المرضيّ) عند «كافكا»، وبأخطار «البارانويا» التي كان يشعُر أنّه يُواجِهُها، وكنت ألحظ، على نحْو خاصّ، عجْزَه عن الاِنْغماس في الواقع. وماكان يُدهشُني، بشكل أساسيّ، هو نِقاط ضعفه. وقد أيقنتُ، على المدى الطّويل، أنّه تمكّن من تحويلها إلى مصدر قُوّة. لم يكن في حاجة، قَطُّ، إلى طبيبٍ نفْسانيٍّ. لقد وُفِّق، على الدّوام، في العُثور على الوسيلة التي تضْمَن خلاصَه، انطلاقاً من ذاته، و-بمعنى آخر- لقد أَبانَ، دائماً، عن قُدرته، من الناحية النفسية، على اسْتمْداد عِلاجه الخاصّ من ذاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: ليونيل ريشار

المصدر:

مجلّة «الماغازين ليتيرير- Le magazine littéraire»، العدد (415).

إرسال تعليق

0 تعليقات

مساحة اعلانية احترافية
مساحة اعلانية احترافية
مساحة اعلانية احترافية